بقلم:إميل أمين
لطالما تحدَّثَ المحللون العسكريون والمراقبون الاستخباراتِيّون عن مآلات العنف في الشرق الأوسط، وكيف أنه كفيل بإشعال حرب كبرى في المنطقة. ومع العنف الذي اشتعل بين جماعة حماس وإسرائيل، لم يَعُد التساؤل هو هل ستحدث القارعة، بل متى ستحدث؟
من شجرة التين يَعْلم الإنسان المَثَل، متى لانت أغصانها واخضَرّتْ أوراقها، فإن الصيف قريب. وعليه، متى نظر المرء بعينيه الحشود العسكرية الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، في المنطقة، فعليه أن يدرك أنّ الحرب على الأبواب.
فَجّرتْ حماس مخزونًا من العنف والغضب الإسرائيلي بعمَلِيّتها الأخيرة نهار السابع من أكتوبر. والمؤكد أنّها أخطأت في تقدير ما يعرف بـ"ميزان الانتباه العسكري"، أي موازنة قدراتها مع الجانب الآخر.
أمران ربّما فاتا الحمساوية في سعيهم الأخير:
الأول: متعلق بالعقيدة العسكرية القتالية لإسرائيل، والتي يمكنها أن تغفر أيّة خلافات رأي أو توجهات سياسية، وهذه وتلك يمكن إعادة تصويب مساراتها، وبلورة ممرات جديدة لمساقاتها، غير أنها لا تغفر أبدًا لمن تلَوّثت أياديهم بالدماء، فهؤلاء يحقّ عليهم القول ويتوَجّب تدميرهم بأقصى قدر ممكن.
الثاني: فموصول بوضعِيّة إسرائيل في المنطقة، وهي وضعية تتجاوز فكرة العلاقات الوثيقة أو اللصيقة مع الناتو والأطلسي. إنها علاقة عضوية، فإسرائيل تعتبر جزءًا لا يتجَزّأ من البناء الهيكليّ الدوجمائي والعرقي الغربي.
الذين تابعوا زيارة وزير الخارجية الأميركي السيد أنتوني بلينكن الأيام القليلة الماضية لتل أبيب، ربما راعهم قوله إنني جئتُ هنا كيهودي وليس كأميركي.
في الداخل الأميركي، وجدنا أصواتًا مثل السيناتور الجمهوري النافذ ليندسي غراهام، يتحدث بلهجة دينية أكثر منها سياسية، مطالِبًا بالقضاء على حماس، وكلّ من هدد إسرائيل.
غراهام الذي ينتمي لإحدى الطوائف البروتستانتية، يعتبر نفسه في واقع الحال يهوديًّا أكثر من يهود إسرائيل، الأمر الذي يحيلنا إلى ما يغيب عن حماس، ألا وهو القناعة الأميركية بأن إسرائيل لا يمكن أن تُهَدَّد أو تُهزَم. وكأنّ الأمر عودة إلى سياقات الصراعات ذات الملمح والملمس العقدي من جديد.
لم يتوانَ الرئيس الأمريكي عن إظهار دعمه المطلق لإسرائيل بعد عملية السابع من أكتوبر الجاري، وتصريحاته توضح كيف أنّه بات مَلَكِيًّا أكثر من الملك نفسه.
والشاهد أنه حين ينتقل وزير الدفاع الجنرال لويد أوستن إلى إسرائيل بعد أقل من أسبوع على الكارثة وليست الحادثة التي جرت هناك، يدرك القارئ أن هناك ترتيبات عالية التقدير يجري لها، لا تصُبّ حكمًا في خانة التهدئة أو البحث عن مخرج سلمِيّ، وإنّما تشي بأن القارعة على الأبواب.
هل هذه تنَبّؤات تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها، أم أنّ الأمر يكاد يكون حقيقة واقعة؟
المقطوع به أنّه حين تتحرك حاملة الطائرات البحريّة الأحدث في الترسانة الأميركية، جيرالد فورد، مع ما يستتبعها من قوة إطلاق نار، ولا يُستبعَد أن تلحقها حاملة أخرى، ومجموعات بحرية قد لا يُعلَن عنها مُسبَقًا، ويُفاجَأ الجميعُ بوجودها في دائرة المعارك.
وحين تتحرك قطع بحرية بريطانية، وأخرى نظيرة لها من فرنسا، وغالبًا ما ستلحقها دول أخرى، يدرك المرء أن جوهر الصراع ليس في قطاع غزة، وإنّما في موقع وموضع لا يخفى عن الأعين، ولا يغيب عن ناظري ذوي الألباب، إنّها إيران في المبتدأ والخبر.
بديهي أنّ قوة النيران التي تتجَمّع في الأفق المتوسطي، وقبل أشهر كانت هناك تحَرّكات مثيرة في مياه الخليج العربي، وساعتها كان هناك يقين بأنّ شيئًا ما سيحدث عمّا قريب، لكن كانت تغيب ميكانيزمات الفعل نفسه.
الآن وبعد عملية حماس، يكاد المشهد ينجلي للجميع، سيما أنّ الأحاديث عن دور إيران في تسليح وتدريب كتائب القسام وغيرها قائمة في الحال، وما أماطت عنه صحيفة الوول ستريت جورنال من لثام حول لقاءات بين قادة حماس وضباط من الحرس الثوري الإيراني في بيروت، تقطع بأنّ إيران ضالعة في المشهد، وأن إسرائيل لا تواجه حماس فحسب، بل إيران من ورائها.
ما حدث للإسرائيليين سوف يدفعهم للانتقام الواسع والشاسع، وبدموية ربّما غير مسبوقة من كل الأطراف والأطياف الداعمة إيديولوجِيًّا ولوجستِيًّا لحماس، ما قد يفتح الباب عن سخونة الرؤوس لمشاركات واسعة من جانب حزب الله، مخلب القِطّ المؤكَّد لإيران، والذراع العسكري لها في جنوب لبنان.
أدركت إسرائيل باكرًا أن الحرب قادمة لا محالة، وأن القتال سوف يتدَرّج عبر ثلاث مراحل، قد لا تقوى عليها كلِّها دفعةً واحدة.
البداية من مواجهة الحمساوية في غزة، وهؤلاء تستطيع تل أبيب برًّا وبحرًا وجوًّا مواجهتَهم، وتكبيدهم خسائر فادحة بما يتوافر لديها من قوة نيران، ومَهْما تكنْ الضحايا.
المرحلة الثانية حكمًا تتمثل في جبهتَيْ حزب الله والجولان السوري المحتل، وكلتاهما عند القارعة ستكون مهدِّدًا خطيرًا وكبيرًا لكافّة المدن الإسرائيلية، لا سِيّما حال انهمرت آلاف الصواريخ فوق رؤوس الإسرائيليين، الأمر الذي سيُحدِث ذعرًا كفيلاً بدفع الإسرائيليين للفرار، وهنا تضحي نكبة إسرائيل ديموغرافية قبل أن تضحي عسكرية.
وتبقى العقبة الكبرى، إيران، والتي تُهدِّد صباحَ مساءَ كلِّ يوم بإحراق وربّما إغراق الدولة الصهيونية، عطفًا على حجر الزاوية الأكثر إزعاجًا لكافة الدوائر الغربية فيها، أي مشروعها النوويّ.
من هنا يَتفَهّم القارئ الحاجة الماسّة لهذا التجَمّع العسكري الكبير في المنطقة، والذي يزيد حكمًا عن حاجة إسرائيل لمواجهة غزة.
هل كان الدور المرسوم للحمساوية هو إشعال فتيل الحرب، عبر تلك العملية، لتبدأ من بعدها الأوركسترا الغربية في عزف مقطوعة النيران الأكبر والأخطر منذ الحرب العالمية الثانية؟
التساؤل يلقي بطرف من النظر على الأوضاع العالمية، والتي قد تكون جيدة لأن تكرر واشنطن ما قامت به في أبريل من عام 1988، تلك العملية التي عُرِفتْ باسم "فرس النبي"، حيث تم تدمير نصف الأسطول الإيراني، بعد أن تعَرّضتْ الفرقاطة الأميركية، "صموئيل روبرتس" لِلَغَمٍ بحريّ في مياه الخليج.
هذه المرة سيكون الهدف برنامج إيران النووي، وبقية البنية التحتية الإيرانية، وربما تنظر "الحكومة الأمريكية الخفِيّة" للواقع الدولي نظرةً مثيرة تدفع في سياق حرب كبرى .. لماذا؟
أوّلاً: في البيت الأبيض رئيس مستقبله وراءه وليس أمامه ولهذا ما من مشكلة في أن يتم تحميله بأية أخطاء أو خسائر تُرتكَب في القارعة القادمة.
ثانيًا: روسيا منشغلة بما يكفي في المواجهة مع أوكرانيا وهجماتها المتتالية.
ثالثًا: الصين، تعاني من جبهات عسكرية مفتوحة في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي، وجزيرة تايوان، عطفًا على أزماتها الاقصادية؟
هل الساحة الشرق أوسطية جاهزة للقارعة؟
لا نتمنى، ولكن ليس كلّ التمنيات مُحَقَّقة إلا ما رحم ربك.