عكست القمّة السعوديّة الإفريقيّة، التي شهدتها أرض المملكة الأيّام القليلة الماضية، نهجًا جديدًا تجاه تلك السمراء التي تعرّضتْ وربّما لا تزال تتعَرّض للكثير من الظلم التاريخيّ، رغم ثرائها الواضح، ومواردها الخصبة.
جاءت القمّة لتؤكّد على أنّ رؤية 2030 تمضي بنجاحات عقلانيّة، وبرؤى ودراسات استشرافيّة، تقدر لرجلها قبل الخطو موضعها، مرتكزةً على دبلوماسيّة شابّة واعدة يتسَنّمها وليُّ العهد الأمير محمد بن سلمان، دبلوماسيّة قادرة على ضبط المسافات من الرياض إلى بقِيّة العواصم حول العالم.
تاريخيًّا ارتبطت أراضي شبه الجزيرة السعودية بالقارة الإفريقيّة، بأكثر من ارتباطها بأيّة قارة أخرى حول العالم.
قبل ظهور الإسلام كانت الهجرات متبادلة بين جانبَيْ البحر الأحمر، ولهذا تجد حضورًا عربيًّا قديمًا جدًّا في قلب العديد من الدول الإفريقيّة، بل إنّك تجد قبائل عربيّة لا تزال تحتفظ بأسمائها الأصليّة، رغم حضورها الديموغرافيّ في قلب القارّة.
تاليًا وفي بدايات انتشار الدعوة، يذكر التاريخ هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، حيث النجاشي الملك المسيحيّ الذي لا يُظلَم عنده أحدٌ، وكيف استجار به المسلمون الأوائل وقد أجارهم بالفعل منقِذًا إيّاهم برفضه تسليمهم للمشركين.
يعني ما تقدم أنّ العلاقات بين السعودية والقارة الإفريقيّة ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل إنّها تعود لقرابة ألفَيْ عام، إن لم تزِدْ عن ذلك.
يعنُّ لنا التساؤل: "هل اهتمام القيادة السعوديّة ممثَّلةً في خادم الحرمين الملك سلمان ووليّ العهد الأمير محمد، هو أمر وليد اليوم، أي نشأ على جانب هذه القمة، أم أنّ هناك جهودًا حقيقيّة لا تُوارَى ولا تُدارَى في هذا السياق؟
لعلّ بعض الأحداث القريبة تاريخيًّا تُبيِّن لنا السياقات التي جرتْ فيها هذه العلاقة في الزمن القريب، فعلى سبيل المثال أسمهت جهود وليّ العهد خلال رئاسة المملكة لمجموعة العشرين عام 2020 في إطلاق مبادرة مجموعة العشرين لتعليق مدفوعات خدمة الدَّيْن، ومبادرة إطار العمل المشترك لمعالجة الديون، حيث وَفَّرت المبادرتان سيولة عاجلة لـ 73 دولة من الدول الأشد فقرًا من ضمنها 38 دولة إفريقيّة حصلت على أكثر من 5 مليارات دولار.
لم يتوقَّفْ الأمر عند هذا الحد؛ فقد حرص وليّ العهد على دعم اقتصاد القارة الإفريقية، حيث أطلق صندوقُ الاستثمارات العامّة في المملكة عددًا من المشاريع والأنشطة الاستثماريّة في دول إفريقيا في قطاعات الطاقة والتعدين والاتّصالات والأغذية وغيرها بإجمالي 15 مليار ريال سعوديّ، كما أكَّدَ سموّه على أهمية استمرار البحث عن فرص الاستثمار في القارة الإفريقيّة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
هل مناهج الاستثمار والبناء والنماء السعودية في القارة الإفريقية تتسق أو تتشابه مع ما تقوم به قوى كبرى قُطبيَّة وإقليميّة فوق الأراضي الإفريقية، أم أنّ هناك بالفعل ما هو مختلف في المخبر والمظهر دفعةً واحدة؟
بالنظر إلى الخارطة الجيوسياسيّة للقارة الإفريقية، يمكن القطع بأن هناك مبارزة تجري بقوّة قاهرة، فوق رقعة "السمراء التي أحببتها" بحسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة الراحل الدكتور بطرس غالي.
السباق يجري على محورَيْن إستراتيجِيَّيْن:
الأول: هو الموقع الجغرافيّ، حيث إفريقيا تمثل منتصف العالم، بين الغرب الأميركي، والشرق الآسيويّ، ما يجعل منها نقاط وصل وتواصل حول البسيطة، ومن يتحَكَّمْ في مداخلها ومخارجها، يُصِبْ نجاحًا عظيمًا في عالم القطبيّة المتعددة القادمة.
الثاني: هو الثروات البكر التي تَحْفَل بها أراضي القارة، من نفط ومعادن نادرة مثل الذهب تحديدًا، ناهيك عن المعادن اللازمة لصناعات الذكاء الاصطناعيّ، والذي يمثل مستقبل العالم في الحال والاستقبال، عطفًا على المواد شديدة الندرة المستخدمة في صناعة الأسلحة النوويّة، وفي مقدمها اليورانيوم.
هنا تبدو الأطماع الأجنبيّة واضحة وضوح الشمس في ضحاها، ويبقى التساؤل: "هل هولاء يسعون إلى تنمية البشر قبل الحجر، أم استنفاذ موارد القارة، وتركها في مستنقعات الفقر والجهل والمرض، عطفًا على الصراعات العسكرية والحروب الأهلية التي لا تنفكّ تشتعل في أرجاء القارة من جديد؟
حكمًا تبدو الرؤية البراغماتية غير المستنيرة حاكمة في الكثير من مقدّرات القوى الغربية والشرقية معًا، فالصراع الدائر هناك غير قاصر على فرنسا صاحبة التاريخ الاستعماريّ الإفريقي الطويل، ولا بلجيكا ذات الشأن فيما مضى.
الصراع الضاري اليوم قائم وقادم بين الولايات المتحدة الأميركيّة التي عادت مَرّةً جديدة للقارة عينها، بعد أن فكرت مليًّا وجليًّا في مغادرتها والتفرغ لمواجهة الصين.
غير أنّها وجدت الصين تملأ وبسرعة وإمكانيات هائلة كافة مربعات النفوذ التي أخلتها، ومن هنا بات على واشنطن العودة مرّةً جديدة، مستخدمةً سياسةالعصا والجزرة، أو ذهب المُعِزّ وسيفه، والأمر عينه ينطبق على روسيا.
ما تتطلع إليه السعودية في مخططاتها الإستراتيجية لجهة القارة الإفريقية، نوع من أنواع المعادلة التاريخية، "الجميع فائز"، ومن غير نرجسيّات غير مستنيرة، بمعنى أنّ الكل سيفوز من جَرّاء الشراكات الاقتصادية والتنموية الواسعة المدى والتي لا تضنّ السعودية بأموالها في مشروعاتها.
لا تقتصر النظرة السعودية لإفريقيا على الجانب الاقتصاديّ والماديّ فحسب، بل نجد أياديَ بيضاء تسعى لإفشاء السلام في دروب الخصام.
أثمر دعم وليّ العهد للجهود الدولية والإقليمية الرامية لإرساء دعائم الأمن والاستقرار وحل النزاعات في القارة الإفريقية، في توقيع اتفاقيّة جدة التاريخيّ للسلام بين إثيوبيا وإريتريا واستئناف الحادثات بين طرفَيْ النزاع في السودان بجدة بهدف الوصول لاتّفاق سياسيّ يحقق الأمن والاستقرار، ويثبت الازدهار للسودان وشعبه.
قَدَّمت المملكة أكثر من 45 مليار دولار لدعم المشاريع التنموية والإنسانية في 54 دولة إفريقية، كما بلغت مساعدات مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانيّة أكثر من 450 مليون دولار في 46 دولة إفريقيّة.
ما الذي تعنيه هذه الأرقام ضمن دائرة العلاقات السعودية – الإفريقية؟
بصراحة مطلقة، تعني أن هناك بُعدًا أخلاقيًّا، وجدانيًّا وإيمانيًّا في علاقة المملكة بدول وشعوب هذه القارة المُترَدِّية أحوالها، وأنّ مفهوم الربح المُجَرَّد من النوازع الإنسانية غير قائم في الروح السعودية الملحقة فوق أراضي مملؤة بالخيرات، ويتكالب عليها الطامعون إلا ما رحم ربُّك.
ما سبق من علاقات إفريقيّة – سعوديّة مرحلةٌ، وما هو آتٍ مرحلةٌ مغايرة، حيث تتطَلَّع المملكة لضَخّ استثمارات جديدة في مختلف القطاعات بما يزيد عن 25 مليار دولار، وتمويل وتأمين 10 مليارات دولار من الصادرات، وتقديم 5 مليارات دولار تمويلاً تنمويًّا إضافيًّا لإفريقيا حتّى عام 2030.
ما تقوم به المملكة ينضوي تحت راية "طرح القضايا المصيريّة التي تبدأ من الذات، وليس من الآخرين"، ولهذا تتراكم نجاحات هذه الدبلوماسيّة في الحِلّ والترحال، أمس واليوم وغدًا.