ألقت قرارات الرئيس دونالد ترمب الخاصة بالتعريفات الجمركية الأخيرة، أحجارًا كثيرة وليس حجرًا واحدًا في المياه الدولية، وبات التساؤل: هل ما حدث مجرد توجهات اقتصادية مغايرة، أم انقلابًا في سياسات الولايات المتحدة الخارجية، وبما يتماسّ مع الكثير من المعايير والمحددات الدولية المتعارَف عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونشوء وارتقاء نظام بريتون وودز، بكافّة مؤسساته الدولية وفي مقدمها البنك والصندوق الدوليَّيْن، ثم منظمة التجارة العالمية، ناهيك عن قواعد اللعبة الرأسمالية المتعارَف عليها منذ زمن آدم سميث وحتى اليوم.
الأسئلة كثيرة، ومرحلة الضبابية لا تزال تخيِّم على سماوات العالم، الأمر الذي يستدعي محاولات فهم ما تجري به المقادير، وفي ضوء ما هو متاح من معلومات حتى الساعة.
يَعِنّ للقارئ شرقًا وغربًا أن يتساءل بدايةً: "ما هو الهدف الذي يصول ويجول في عقل الرئيس الأميركي، ودفعه لمثل هذه الباقة من القرارات الصادمة للاقتصاد العالمي؟".
المؤكد أن ترمب لم يوار أو يدار نواياه، وقد تجلت في تعريفات جمركية بعينها في ولايته الأولى، لكنها لم تربُ إلى هذا المستوى الذي أطلقه منذ أيّام، وقصد منه إعادة التصنيع إلى الداخل الأميركي، والردّ على سياسات التجارة غير العادلة من البلدان الأخرى، وزيادة الإيرادات الضريبية، وتحفيز حملات القمع ضد الهجرة والإتجار في المخدرات.
غير أن هذه الأهداف تبدو في واقع الأمر يوتوبية، وكأن سيد البيت الأبيض ينشد أن تتحول الولايات المتحدة إلى "المدينة الفاضلة"، ناسيًا أو متناسيًا، حالة الترابط والتشابك التي باتت تلفّ العالم معرفيًّا واقتصاديًّا، تجاريًّا وأمنيًّا، ما تجاوز بالفعل توصيف عالم الاجتماع الكندي الأشهر مارشال ماكلوهان، عن القرية الكونية الصغيرة.
نقاط بعينها لا بد من محاججتها في طريق فهم أبعاد المشهد الاقتصادي الأميركي في تقاطعاته وتشارعاته مع قرارات الرئيس ترامب وفي المقدمة منها ما الذي يعنيه "قرار التحرير" على الشركات الأميركية في الداخل أول الأمر؟
رَوَّجَ الرئيس الأميركي لفكرة الرسوم الجمركية العالمية، معتبرًا أن الحدثَ نصرٌ اقتصاديٌّ كبير لبلاده، ومحققًا بذلك وعده الانتخابي بتحرير البلاد من ارتفاع الأسعار، وادعى أن "الأسعار انخفضت بشكل ملحوظ" منذ عودته الى منصبه، غير أن الحقيقة التي يلمسها من يزور أيَّ متجر بقالة في أصغر مدينة في الريف الأميركي، قد يشعر باختلاف في الرأي.
من الواضح أن الشركات الأميركية تخشى من التاثير الأوسع لهذه الخطوة، إذ تحذر من أن ارتفاع التكاليف سينتقل إلى عملائها.
لا تبدو هذه تنظيرات فكرية، بل حقائق ووقائع عملياتية، فقد صرح "نيل برادلي"، كبير مسؤولي السياسات في غرفة التجارة الأميركية، وهي جماعة ضغط للشركات بالقول: "ما سمعناه من شركات من جميع الأحجام والقطاعات ومن جميع أنحاء البلاد هو أن هذه التعريفات الجمركية الشاملة تمثل زيادة ضريبية سترفع الأسعار على المستهلكين الأميركيين وتضرّ بالاقتصاد الأميركي الكلي دفعة واحدة.
أحد الذين قدموا رؤية واضحة لتكاليف التعريفات الجمركية الأخيرة، مايكل فورمان، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي في نيويورك، تلك المؤسسة التي تمثل العقل الفاعل بالنسبة للبيت الأبيض على صعيد رسم السياسات الخارجية.
يقطع فورمان بأن هناك ارتدادات صاخبة سوف تضرب ولا شك جنبات المجتمع الأميركي من جراء ثلاثة أنواع من التكاليف.
البداية من عند ما يُطلَق عليه التكاليف التنفيذية، أي تلك المرتبطة بما ستتحمله أسواق التجزئة بنوع خاص، ويقدم كندا والمكسيك كمثال، وهما من توردان اللحوم والخضروات للأسواق الداخلية، مع رفع هامش أسعارهما، ما يمكن أن يدفع المواطن الأميركي إلى حالة من عدم اليقين بالنسبة للإنفاق، الأمر الذي يفتح أبواب الركود الاقتصادي مرة جديدة في الداخل الأميركي.
النوع الثاني من الـتكاليف، هو تلك التي تسمى الانتقامية، فعلى سبيل المثال، استهدفت تعريفات الرئيس ترمب الصين بنوع خاص بشريحة عالية، والقصد أن تصاب أسواق الدول الآسيوية التي تستثمر في الصين، بركود وتضخم، ما ينعكس على الصين عينها، والتي يخشى ترمب من دورها المالي والتجاري على الصعيد العالمي، لا سيما حال اكتمال مشروعها الخاص بالحزام والطريق.
غير أن ما يفوت واضعو الخطوط الرئيسية لتلك القواعد الجمركية الجديدة، هو أنهم يقدمون فرصة ذهبيّةً لخلق تكتلات سياسية ذات أهداف اقتصادية محددة تضحى بكين حجر الزاوية فيها.
في هذا السياق تحديدًا يمكن القطع بأن ترمب وربما من غير قصد مباشر منه، سوف يعطي قبلة الحياة لتجمع البريكس والبريكس بلس، ويفيض من لدنه قوة على منظمة شنغهاي، وعلى العديد من المجموعات التي ستندفع إلى التعاون في سبيل صدّ ورَدّ غوائل الهجوم الاقتصادي الأميركي.
يتساءل المرء: هل يمكن لتعريفات سيد البيت الأبيض أن تحدث أثرًا سياسيًّا سلبيًّا على العلاقة بين دفَّتَيْ الأطلسي أي مع الجانب الأوروبي؟
الواقع يقطع بأن هناك وعودًا قاسية من مسؤول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، والتي تركت الباب مفتوحًا لتراجع ترمب، غير أنها وفي ذات الوقت أكدت على وجود أفكار ومخطَّطات للردّ، ومنها عقوبات جمركية مقابلة، تشمل أكبر سوق للولايات المتحدة، سوق يستوعب نحو أربعمئة مليون أوروبي.
ولعله من نافلة القول إن العلاقات الأوروبية الأميركية يشوبها قلقٌ شديد من جراء التوجهات العسكرية لترمب، سواء ما يتعلق منها بمصالحاته القادمة مع القيصر بوتين، أو ما يتصل بالمطالبة برفع قيمة المساهمات الأوروبية في ميزانية الناتو، وبما يصل إلى نحو 5% من ميزانية كل دولة على حدة.
هنا وحال النظر إلى أكلاف ترمب الجمركية، ومطالباته المالية الخاصة بالناتو، حكمًا ستكون النتيجة سيئة للغاية على أوضاع التنمية الاقتصادية الأوروبية بشكل عامًّ.
هل يفتح الرئيس الأميركي الباب لإجراءات اقتصادية عالمية من شأنها خلق اضطراب اقتصادي عالمي دفعة واحدة، لا يضرّ بالداخل الأميركي فحسب، بل بعموم قارات العالم؟
الثابت أن الولايات المتحدة لاتزال حتى الساعة، مهندس اقتصاد العالم، وعلى الرغم من أن هذه المكانة، قد تختلف بنهاية العقد الحالي، إلا أنها حكمًا لن تتراجع إلا بقدر طفيف لو تراجعت.
الإشكال الحقيقي هنا هو أنها تفتح الباب لمن يسعى في محاكاة تفكيرها الاقتصادي، وعوضًا عن تيسير سبل التجارة العالمية، والحدّ من الإجراءات الحمائية، والطرق الاقتصادية الانعزالية، ستعزّز تكريس العشرات من الدول الكبرى والمتوسطة بنوع خاصّ، لأساليب مشابهة، ما يعود بنا إلى ما قبل أحاديث العولمة، وهي رفاهية لا يستطيعها أحد، وبخاصة في ضوء معطيات متطلبات التصنيع العالمي، حيث القطعة الواحدة سواء كانت سيارة أو دراجة، كمبيوتر أم هاتف نقال، باتت تتشارك أكثر من دولة في صناعتها وتقديمها كمنتج عالميّ.
ولعله من نوادر ما يحدث، تعرض جزيرة نورفولك التي تقع على الساحل الشرقي لأستراليا، لتعريفة جمركية بنسبة 29% أو 19 نقطة مئوية أعلى من بقية أستراليا، مما دفع رئيس الوزراء الإسترالي أنتوني ألبانيز إلى القول يوم الخميس "لست متأكدًا تمامًا من أن جزيرة نورفولك، فيما يتعلق بها، هي منافس تجاري للاقتصاد العملاق للولايات المتحدة، ولكن هذا يظهر ويجسد حقيقة مفادها أنه لا يوجد مكان على وجه الأرض في مأمن من هذا؟".
إلى أين تمضي السياسات الخارجية الأميركية؟