عصفت السياسة برئيس ديوان المحاسبة في الكويت فيصل الشايع الأسبوع الماضي، بعدما صرح عدد من النواب في مجلس الأمة المنتخب الجديد بنية إقالته. القانون لا يسمح بإقالة رئيس ديوان المحاسبة كونه ذراعاً رقابية أساسية، إلا بعد اتهام صريح ومحاكمة وإدانة، والأصل في تعيين شخص لقيادة متابعة الإجراءات الحكومية المحاسبية هو ان يكون مستقلا حتى لا يخضع لأي ضغوط كانت. لقد أعطى القانون للمنصب ضمانات لكفالة استقلاليته الا لأسباب حصرية حددها القانون. المساس به لأسباب سياسية أو شخصية كمثل فتح باب السجون نكاية بالقضاء، إنها فوضى شاملة وتعدٍ على استقرار الوطن.
الضغط بطلب الاستقالة خضع له فيصل بسبب وطنيته، وليس خوفاً من مساءلة رسمية، فالرجل يُشهد له بالاستقامة والوطنية، ولكنه فضل أن يجنب وطنه هزات سياسية هو في غنى عنها في مرحلة صعبة من التطور السياسي تنبئ بصراع عبثي.
قدم الرجل استقالة مسببة وقد نشرت، قال في بعضها: "ساءت النيات وانحرفت المقاصد وبات بنيان ديوان المحاسبة، الذراع الرقابية الدستورية لمجلس الأمة الموقر، مهدداً بالتحطم والتخريب تحت سندان السياسة المتطرفة ومطرقة المنفعة الخاصة، وهنا تتضاعف مسؤوليتي الوطنية، فلا بد من أن أقرع جرس الإنذار"، استقالة وصفها كثيرون بأنها تاريخية.
رسالة الاستقالة طويلة، ولكن صلبها هو أن هناك اتهاماً سياسياً لا أساس له على أرض الواقع، أصاب الرجل لسبب ليس له علاقة مباشرة أو مهنية به.
ذاك، تاريخياً، ما حدا بالكاتب الفرنسي إميل زولا (من أصول إيطالية) إلى كتابة مقالته المشهورة "إني أتهم" إعمالاً لمبدأ (عدم السكوت عن الظلم)، لأن هناك شخصاً اتهم ظلماً بفعل لم يقم به، فقط لأنه من دين آخر، إذ قامت جماعة من الجمهور بسبب التعصب والجشع الأعمى باتهامه بما لم يقم به، وهو ما حدث للسيد فيصل الشايع، إذ دفع ثمناً غالياً بسبب ظروف تعيينه، وليس بسبب تراخ في عمله، وإن وصلت الأمور في المجتمع، أي مجتمع، إلى هذا القاع من التدني السياسي وأخذ الناس بجريمة من يعرفون أو بسبب خلفيتهم الاجتماعية، فهو أمر جلل، يشي بمرض متأصل في التعامل بالشخصانية وهو مخيف، بجانب كونه معطلاً للمجتمع من التقدم إلى الأفضل.
في الواقع، إن رئيس ديوان المحاسبة حصل على منصبه من خلال موافقة أعضاء المجلس الأسبق، ما تغير هو أن أشخاص المجلس الحالي ليسوا هم في الأغلب السابقين، ولأسباب شهية غير صحية بالانتقام السياسي لا غير، أصبح الشايع ضحية.
ما يظهر من الضغط على الشايع لتقديم استقالته هو سياسي بامتياز، وليس فنياً أو مهنياً ولا حتى شبهة اتهام تنفّع أو تنفيع، وهي المرة الأولى منذ أن أنشئ ذلك الجسم الرقابي يتعرض رئيسه إلى ما تعرض له الشايع، ما يدل إلى تسمم في الأجواء السياسية المشحونة بالشخصانية وغياب تام لاختلاف الشجعان!
استقلالية هذا الجهاز ومهنية معظم من يعمل فيه هما ضمانة أصلية للرقابة على المال العام، والذي كثر اللغط حول تسيبه في السنوات الأخيرة، وذلك ليس سراً، فساحات المحاكم تشهد كماً كبيراً من المحاكمات، أساسها اتهامات بالفساد المالي، وبعضها صدرت فيها أحكام إدانة نهائية والأخرى تنتظر، عدا اللغط الواسع في وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الموضوع، والذي قد يصح بعضه ويكذب أغلبه.
ما يبدو أن العداء السياسي الذي لا يبدو أن له سقفاً هو المحرك الأساس لاستباحة ضمائر العاملين في القطاع العام الكويتي وسمعتهم عموماً، والرقابي على وجه الخصوص، وهو عداء ليس فقط غير مبرر، ولكنه خارج سياق أي ممارسة ديموقراطية. فمن الطبيعي أن يتنافس السياسيون من أجل الحصول على ثقة ناخبيهم، وفي الغالب تُكال الكثير من الصفات (التي ليست بالضرورة حقيقية) في سبيل التمايز السياسي أثناء المعركة الانتخابية، ولكن ليس من الطبيعي أن يمتد ذلك إلى النكاية والتنكيل، فذلك طبع الجماعات البدائية.
لقد انتصر للشايع عدد من جماعات النفع العام في الكويت، وأصدرت بيانات تشيد بمناقبه الشخصية، وإشادات بمهنيته وسيرته الوظيفية، وذلك دليل من جملة أدلة، إلى أن الرجل كان صادق الوعد في ما أقسم عليه بأن يحافظ على المال العام. ولقد كان في الوقت نفسه مسؤولاً ومناقبياً، فحافظ على سرية المعلومات التي في حوزته، وابتعد من الإثارة أو نقل تسريبات تتعطش إليها وسائل التواصل الاجتماعي التي تخطى بعضها، ليس الخلق القويم فحسب، بل والاحترام للذات أو للآخر أو للكرامة الإنسانية.
ديوان المحاسبة في الكويت، وربما في عدد من الدول له أهميته، وتتعاظم أهميته في دولة مثل الكويت حيث تقدّم الدولة تقريباً معظم الخدمات، من المناقصات وحتى شراء الأدوية، لذلك له أهمية خاصة، وبدأ البعض من الآن بترشيح أسماء له قرابة أو مصلحة معهم، ما يثير اشمئزاز الجمهور العام.
المؤكد أن الشعب الكويتي سيراقب التعيينات التي ستتم في إشغال المناصب التي فرغت من شاغليها، وبخاصة ديوان المحاسبة، فإن أطلت شبهة تنفيع لن يسكت المجتمع المدني عليها، بل سيدين بقسوة من نصب تلك الأسماء، وتتراجع سمعة الديوان الرقابي.
لقد استبشر الكويتيون بالمجلس الجديد، وظن الجميع أننا مقدمون على استقرار وإنتاج قوانين تفيد المجتمع، إلا أن الخطوات الأولى التي اتخذها بعض أعضاء المجلس، ظهر منها أن ظن الكثير قد خاب أو يكاد، وتبدلت الأولويات من أن تكون لموضوعات وقضايا لها أولوية في المجتمع، إلى نكايات وشخصنة بغيضة، وليس ذلك ما ينتظره المستنيرون من الشعب الكويتي.
ما زال البعض في بلادنا يتعامل مع السياسة تعامله مع فناجين القهوة السريعة، الاستعمال ثم الإهمال، والاهتمام المبالغ فيه بالصغائر، وإهمال القضايا الكبرى، والمؤكد أن نص استقالة الشايع سوف يتخطى الآنية كي تتذكره الأجيال القادمة، وتأسف على ما فرط به الآباء من فرص لبناء مجتمع حديث ومتطور واتباع سياسات غير ثأرية ولا عصبية.