الفرق بين «الموضة» و«الواقع» يتسع في فضائنا الثقافي العربي. دول ومجتمعات كثيرة عربية تحسبت للمستقبل من خلال تبني التقنية الحديثة في أعمالها العامة، بل إن البعض ذهب في الخيال إلى القول: إنه يريد أن ينشئ «الحكومة الإلكترونية»، وهذا الحماس لإدخال التقنية والرقمنة في العمل الحكومي والخاص في الظاهر يسير مع «الموضة» في العالم، إلا أن التطبيق الواقعي صاحبه ويصاحبه الكثير من الإحباط والتعطيل، فهناك الكثير من المؤسسات والوزارات التي تدّعي أنها تقدّم خدماتها للجمهور من خلال التقنية الحديثة وعن بُعد، تفشل فشلاً ذريعاً في تحويل تلك الرغبة إلى واقع. فعندما يحاول المواطن استخدام تلك التطبيقات كي يحصل على الخدمة، مثل محاولة أن يأخذ موعد طبيب أو سداد اشتراك كهرباء أو موعد لتخليص معاملة خاصة، يواجَه بالكثير من العقبات، أبسطها أن التطبيق لا يعمل، وليس فيه مكان للتنبيه على أنه لا يعمل، وإن كان يعمل فإن الدخول إليه معقد وربما خارج قدرة المواطن العادي، أما إذا كان يعمل، فبعد إدخال كل المعلومات وهي كثيرة ومتعددة، يطلب منك التطبيق مراجعة الإدارة المختصة!
العلّة ليست في الفكرة، فهي فكرة ممتازة، وليست في النيّات أيضاً، فالنيات صادقة... العلّة في مشغِّل الخدمة، فهو لم يحصل على تدريب بما فيه الكفاية، كي يختبر التطبيق بنفسه ويكتشف عيوبه أو أنه لم يحصل على التدريب العملي والأخلاقي أيضاً كي يتعامل مع هذا النوع من الخدمات المتحضرة من دون تعقيد، فهناك في الثقافة العامة مكان «لنظرية المؤامرة» ومكان «للشك في المواطن» بدلاً من الثقة به، لذلك فإن توافرت التقنية لا يقبل متخذ القرار على الطرف الآخر صدق المعلومات المدخلة!
تلك نقيصة في فضائنا العربي الإداري تجدها في كل مرافق الدولة وفي معظم بلداننا، أما إذا قمنا بالمقارنة، فإن متخذ القرار في المجتمعات الغربية ذات البعد الديمقراطي، تجده يهتم بالخدمة المقدمة للمواطن، لأنه في وقت ما سوف يستخدمها. على سبيل المثال اهتمام رئيس الوزراء في بريطانيا بالنقل العام (حافلات أو قطارات) وسوية الخدمة فيها، نابع أساساً من أنه شخصياً عند تركه السلطة سوف يقوم باستخدامها، وكثير من النقد الذي توجهه المعارضة في تلك البلدان، بسبب أن زعيم المعارضة بنفسه وأمام الكاميرات يقوم باستخدام تلك الخدمة. نذكر أن زعيم المعارضة البريطانية السابق عندما اشتدت الشكوى من زحمة القطارات شاهده المواطنون في إحدى العربات جالساً على أرض العربة بسبب عدم وجود كرسي!
أما مَن تَعوّد أن يقوم آخرون بخدمته وله ممر خاص في المطارات، فهو لا يشعر بمعاناة المواطن العادي لا في السابق ولا في اللاحق، ولا تهمه كثيراً تصرفات الأشخاص القائمين على تلك الخدمة تجاه المواطن والتي غالباً ما تكون صلفة إن لم تكن عدائية، ما يهم متخذ القرار أن يقول للرأي العام إنه اتخذ خطوات لتخفيف مشكلاتهم!
من دون تدريب البشر على التعامل الصحيح لاستخدام التقنية ومن ضمن ذلك التدريب هو التدريب على الأمانة الأخلاقية والقيمية وفلسفة تقديم الخدمة عن بُعد، فإن الأمر لا يستقيم، بل يزيد الأمور تعقيداً وتتضاعف الأعباء على المواطن.
قال لي صديق إنه طلب خدمة من إدارةٍ ما أصرت على أن تُطلَب الخدمة عن بُعد، ولكن مضت أسابيع ولم يُرَد عليه! مَن يتحكم في تقديم الخدمة يشعر أنه «مَلك» يأمر وينهى، يتفضل أو لا يتفضل، فبغياب التدريب والمتابعة أو الرقابة فإن من يقدم الخدمة لا يستوعب فلسفتها وأهميتها للمواطن والوطن والاقتصاد.
هنا تظهر التبادلية بين الفرد والمجتمع التي تُنتج السلوك العام، فإن كانت الذاتية مسيطرة فلا معنى لمفهوم خدمة الجماعة. الحياة الرقمية ليست كالسيارة التي يُنتجها الغرب لنستهلكها بالرقمية، فهي تعني ثقافة متكاملة، والاستعداد النفسي والمؤسسي لأن يخدم الناس أنفسهم بأنفسهم من دون «التفضل» عليهم، فهي أساساً مرتبطة بالثقافة، وباختلاف الثقافات ينتج الاختلاف في الاستعمال.
قبل أشهر تأخرت نتائج مدرسية في الكويت (نشرت الصحف عنواناً كبيراً قال: خلل تقني يعطل الحصول على نتائج صفوف النقل). التفسير أن مَن وراء النظام مِن البشر غير قادرين على ضبطه، وهو فقط مثال من عدد كبير من الأمثلة.
إحدى الدول العربية وضعت كاميرات لمراقبة تقديم الخدمة والحد من «الرشى» المقدَّمة للموظفين، فأصبح المواطن يقدم «رشوتين» بدلاً من واحدة، إحداها لمقدم الخدمة والأخرى لمراقب الكاميرات! في دول أخرى سُميت المراقبة باسم «المتعامل السري» وهو شخص المفروض أن يقدم تقريراً على سهولة أو صعوبة تقديم الخدمة العامة، الفكرة في حد ذاتها تعني انعدام الثقة فيمن يقدم الخدمة أصلاً، وفيمن يراقب تقديم الخدمة، والأخير المفروض جزء من جهاز رقابي داخلي، أما الرقيب الأهم فهو الذات المواطنة، والتي تَعد عملها خدمة يجب أن تؤدّى بالأمانة والسرعة، بدلاً من التقاعس والتسويف والمماطلة أو الزبائنية، إنها ثقافة العمل إن لم تتغير فبالرقمنة أو من دون رقمنه النتيجة واحدة!
قد تكون القضايا الموصوفة سابقاً للبعض ذات أهمية جانبية، ولكن الدراسات التي بين أيدينا تقول: إنها ذات تأثير سلبي على الاقتصاد وعلى التنمية في أي مجتمع، فقد وُجد علمياً أن الفرق بين نمو الاقتصاد في مجتمع وركوده في مجتمع آخر، هو عدد الأيام التي يأخذها صاحب الخدمة في ترخيص ما يرغب أن يرخّصه. فذاك يسبب فرقاً في نمو الاقتصاد أو كساده، فأي صاحب مشروع جديد في بلدان النمو المحقق يأخذ بين يوم إلى ثلاثة أيام في ترخيص المشروع، والكثير منها عن بُعد، في الوقت الذي يأخذ في البلدان الأخرى أسابيع وربما شهوراً وقد يُرفض المشروع لسبب ثانوي وبعضه تافه.
آخر الكلام: الفرق هو المنهج في الإدارة، فإن ذُللت المشكلات الصغيرة، الكبيرة فسوف تأخذ طريقها إلى الحل، لأن المنهج صحيح، وإن تغاضيت عن الصغيرة تكبر وتنضم للعقبات الكبيرة التي تواجه المجتمع، لأن المنهج خاطئ.