السياسة هي دائماً متغيرة وتتبع المصالح وليس المبادئ، إنِ اجتمعت المصالح والمبادئ؛ فذلك خير على خير، أما إذا كانت هناك مفاضلة بين المبادئ والمصالح؛ تفضل الثانية قطعاً، وفي كل الأوقات، قد تكون المصالح شخصية أو وطنية أو تلبس ملابس الوطنية، إنما تظل مصالح، تلك حقيقة بشرية وتاريخية، ومن يعتقد غير ذلك، عليه أن ينظر في الأمر من جديد ويتدبره بعقل لا عاطفة.
انتشرت في الأيام الأخيرة «شرائط مصورة» تظهر مطاردة قوة من الشرطة التركية بعض السوريين، على أساس أنهم مخالفون لشروط الإقامة، فتلك ذريعة ومقدمة للتخلص من السوريين الموجودين في تركيا، والأسباب معروفة؛ فقد انصب نقد المعارضين في الحملة السياسية الأخيرة على ذلك الوجود السوري، كما وُضع كل اللوم شعبياً، والذي سببه التراجع الاقتصادي التركي، على اللاجئين السوريين، إلى جانب أن رغبة الدولة التركية في هذه المرحلة الدخول بطريقةٍ ما إلى الاتحاد الاقتصادي الأوروبي، كلها عوامل سببت «المطاردة» للاجئين السوريين، والتي ظن كثير منهم أن قبولهم في تركيا في وقت سابق هو «تجسيد مبادئ الأخوة الإسلامية»!
الحقيقة المعروفة أن هناك جماعات سياسية عربية (وبخاصة الإسلام الحركي) عدت الموقف التركي تجاه العرب في السابق أنه موقف مبدئي «نتيجة الأخوة الإسلامية» التي يمثلها النظام التركي خير تمثيل من وجهة نظرهم، بل إن أحدهم كتب على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو يغادر وطنه غاضباً، عبارة عاطفية جياشة عُدت دستوراً لمحازبيهم قال فيها «أنا متوجه إلى تركيا؛ لأن فيها رجلاً لا يُظلم عنده أحد»! ذلك الفهم الساذج في وقتٍ ما جعل من البضائع التركية هي المفضلة؛ «لأنها إسلامية»، وأصبحت مناطق السياحة والاصطياف وجهتها تركيا، بل سادت المسلسلات التركية، وحاجج كثيرون أن «بداية الدولة الإسلامية الكبرى» هي أنقرة العاصمة التركية، وأصبحت «الإصلاحات الشكلية كما في ملابس السيدات» هي المؤشر الأهم في الفخر بتلك الدولة، متغاضين عن كل الممارسات الأخرى التي قام بها النظام التركي أو سمح بها!
لم أكتب ما سبق لأنتقد النظام التركي، فمن حقه الطبيعي أن يمارس السياسات التي يراها تحقق مصالحه أو مصالح شعبه، ذلك ديدن السياسة، إنما من أجل تبيان «السذاجة السياسية» التي روجت لها بعض القوى العربية، وبخاصة في الإسلام الحركي، أن «الدولة الإسلامية العابرة للحدود الوطنية» أصبحت لها قاعدة في تركيا، وعليه يجب أن تُدعم «حقاً أو باطلاً»، أعملت خيراً أو حتى شراً.
مستقبل السوريين في تركيا أصبح اليوم على المحك، كما أن التخلص من قيادات «الإسلام الحركي» أو بعضهم جارٍ تنفيذه، العيب كل العيب هو أن يقدم البعض مصالح دولة غير بلاده على مصالح وطنه، ويروج لأفكار هو أول من يعرف أن العصر قد تجاوزها.
تقديم المصالح على المبادئ واضح في أماكن أخرى، فكل الجهد السياسي والمالي والعسكري الغربي المقدم لأوكرانيا هو عمل سياسي وليس مبدئياً؛ سياسي لأن الغرب شعر بتهديد من التوسع الروسي، بعد ضم القرم وبعد اقتطاع شمال جورجيا، ووصل الغرب إلى تصور هو، إن لم تتوقف «شهية موسكو» في التوسع فسوف تصل إلى شرق أوروبا، وربما أكثر من ذلك، واستدعت الذاكرة الغربية ما قام به أدولف هتلر قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن! وليس لأن النظام الأوكراني «امرأة قيصر»؛ ففيه من المثالب، وبخاصة الفساد الإداري والمالي، ما تعترف به بعض الدوائر الأوروبية والأميركية.
وإن نظرنا إلى الشرق، فسوف نجد «العجب السياسي»؛ فقد استُقبل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أخيراً في البيت الأبيض، وكان الرجل مرة أخرى ضيف الشرف في الاحتفالات الأخيرة في باريس، في ذكرى الثورة الفرنسية؛ وذلك لأهمية الهند الاقتصادية والاستراتيجية للغرب، أما موضوع الاضطهاد غير المبرر للمسلمين الهنود، وهم ما يقارب 200 مليون إنسان، فلم يكن له أولوية في عاصمة النور، وإن جاء سؤالاً من صحفية في واشنطن أثارت الموضوع وتم تجاهله بسرعة.
في أكثر من شريط موجود على الشبكة العالمية تسمع وترى تصريحات «مقززة» من مسؤولين في الحكومة الهندية تقول بصراحة «إن مسلمي الهند ليسوا بشراً، ولا حقوق إنسان لهم»! وذاك يناقض كلياً كل الشرائع الدولية! ولم يسمع العالم «أي عقوبات» بسبب تلك الممارسات، قد يكون بعض المنتمين إلى الإسلام في الهند قد قاموا أو تصرفوا بشكل خاطئ، ولكن التعميم هنا هو الإشكال الأكبر، وتبني هذا التعميم من مسؤولين على مستويات مختلفة طمعاً في المزايدة من أجل كسب الأصوات، وعواصم العالم المتحضر تتفرج!
إبان الربيع العربي لم تتردد واشنطن أن تستحسن الحكم الشمولي تحت عباءة الإسلام الحركي؛ فقط لأنها تبحث عن الاستقرار ومحاربة الإرهاب، في موقف تنقصه المعلومات والرؤية والفهم الصحيح للتطورات، فنتج عن ذلك حكم قصير لـ«الإخوان» في مصر، وشبه قصير في تونس، كلاهما أصاب البلدين بالشلل.
ويمكن ضرب أمثلة كثيرة حولنا وفي العالم على «نسبية السياسة» وعلو المصالح على المبادئ، مهما كان الصراخ حول الأخيرة عالياً، ربما جزء من هذه الصورة الكئيبة ناتج من الثنائية المرضية في الممارسة الديمقراطية، فالأخيرة مصممة على «إرضاء العامة» وليس تطبيق المبادئ «الإنسانية السامية»، الأخيرة فقط للتبشير بها والأولى لتحقيق مصالح السياسيين في البقاء في السلطة.
نستنتج مما تقدم أن السياسة ليس بها ثوابت، هي متغيرة بتغير مصالح البشر، فالشرير في وقتٍ ما يصبح ملاكاً رشيداً، وبالعكس؛ فالسياسة صراع على الموارد والنفوذ على المستوى الوطني والعالمي، وإلباسها لباس العفة أو لباس الأديان، ما هو إلا طريقة سهلة لاستقطاب العامة وإثارة عصبياتهم، فالأديان بريئة من الدنس السياسي، وكل من يعمل بالسياسة ويلتحف بالدين (أي دين) هو شخص في أقل ما يمكن يخدع العامة ويدغدغ عواطفهم لا غير في سبيل مصالح شخصية مبطنة.
آخر الكلام: لا ثوابت في السياسة ولا مقدس أو معصوم، السياسي يناور يصيب ويخطئ!