الذي يحدث في غزة لا أقل من إبادة جماعية، وربما كانت فرصة الأكثرية المتوحشة في إسرائيل أن تكون هناك حرب بكل المقاييس غير متكافئة لإكمال مشروع اليمين الإسرائيلي، اعتماداً على مستوى كبير من الدعم من القوى الغربية المختلفة، لن تنفع البكائيات في ردع هذا التوحش، فقد قام الفلسطينيون أو أغلبهم بتسوية تاريخية في اتفاق أوسلو، بعضهم كما نعلم رفض وتوجه إلى المزايدة، لكن تلك المزايدة استفاد منها اليمين الإسرائيلي بالقول إنه ليس هناك شريك فلسطيني، ذلك أصبح تاريخاً.
اليمين الإسرائيلي له خلطة سياسية دينية تجلت مؤخراً وبشكل واضح في استشهاد بنيامين نتنياهو بنصوص من العهد القديم، بالضبط لمن قرأ التاريخ، نفس سردية أدولف هتلر في أثناء صعوده السريع إلى السلطة في ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي، خلط الشعارات القومية والسياسية بالمقولات الدينية، ونعرف اليوم كم دفع العالم في ذلك من أرواح حسبت بالملايين.
الجانب الغربي متردد في الإدانة الواضحة، على العكس تماماً مما حدث في أوكرانيا، وفي العمق الحالتان تتشابهان، وربما أكثر فظاعة في غزة، حيث يتم استخدام الماء والغذاء والدواء سلاحاً في المعركة، وحتى الهجوم على المستشفيات هو في صلبه إكمال للقتل، لأن النظرية الصهيونية تقول إنه كلما قلّ الفلسطينيون كان ذلك أفضل، والتقليل منهم يحدث بتدمير المباني على سكانها من جهة، وبترك الجرحى يموتون من جهة أخرى. اليمين الإسرائيلي لا يرى في فلسطين إلا نفسه!
ليس أفضل من أجل استعادة بعض الحقائق إلا قراءة كتاب رشيد الخالدي، «مائة عام من الحروب على فلسطين»، فهو يأخذ ذلك الصراع إلى أبعد من قيام دولة إسرائيل عام 1948، فقد جرى تحت الانتداب البريطاني في سنوات سابقة على ذلك التاريخ، تجريف المدن الآهلة بالسكان العرب إلى خارجها، بعد ما عاناه السكان الأصليون إبان الحرب العالمية الأولى من جوع وفقر وقمع، وبسبب ثورة 1936 - 1939 «الثورة الفلسطينية ضد هجرة اليهود»، يقول الخالدي إن 10 في المائة من الذكور البالغين العرب في فلسطين قُتلوا! وفي عقد واحد بين 1930 – 1939 ارتفع عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، وهي تحت الانتداب من 18 في المائة إلى أكثر من 30 في المائة. وفي المؤتمرات الدولية التي عُقدت بعد الحرب، لم يمثل لا العرب ولا الفلسطينيون، على حد تعبير الخالدي «كان في تلك المؤتمرات التي تقرر مستقبل المنطقة طربوش واحد وسط كثير من القبعات»!
لقد قرر الغرب أن يعطي أرض فلسطين إلى اليهود للتخلص من المسألة اليهودية عندهم، وعمل اليهود الغربيون خصوصاً الرأسماليين منهم على ذلك بدأب وبشكل منظم وممنهج. يذكّرنا الخالدي بقانون صدر في بريطانيا عام 1905 سمي «قانون الأجانب»، وكان مخصصاً لحرمان اليهود الهاربين من اضطهاد القيصر الروسي وقتها من اللجوء إلى بريطانيا!!!
أصبحت العقيدة الصهيونية بعد 48 متمثلة في «هندسة اجتماعية» ثابتة هي «التطهير العرقي» تحت شعارات مختلفة، وكان من العقبات التي واجهت السكان المحليين أن مساحات واسعة من أرض فلسطين كان يملكها «مُلاك غائبون» من أصحاب المال الذين يعيشون في بيروت أو دمشق، ما سهّل للمال الصهيوني أن يشتري تلك الأراضي ويحوّلها إلى «مستعمرات زراعية للوافدين الجدد» ومن ثم تسليحهم، بالضبط كما حدث في العقود الأخيرة، لكن هنا كان اغتصاب للأرض، وتشكيل مستوطنات مسلحة يعيش فيها أكثر البشر توحشاً.
لا يتأخر الخالدي في الإشارة إلى «النقص في استراتيجية المواجهة الفلسطينية»، لهذا «الاستعمار الاستيطاني»، فيشير إلى أن «الفلسطينيين كانوا متفرقين دائماً، ولم تتوافر لهم قيادة جدية» في مجتمع «زراعي أبوي وهرمي»، وهذا النقص استمر للفترة التي نعايشها، وأقصد «الانشقاق» والذي لا تجسير له!
الخطاب الاستعلائي والتحقيري هو جزء من الاستراتيجية الصهيونية، كان دائماً هناك وما زال كما سمعنا أخيراً أن «الفلسطينيين حيوانات»، والأسف أن أحد «المتفذلكين» قال على رؤوس الأشهاد: «نعم، الفلسطينيون حيوانات»! في خطاب غبي متذاكٍ، كما قال أحد قيادات اليمين: «لنضربهم بالنووي»! في تأكيد على ذلك التحقير! إن كثيراً من الإسرائيليين يعتقدون أنهم «صفوف أمامية من الحضارة ضد البربرية» على ما قال الخالدي، فلا عجب إذاً أن يشيع الإعلام الإسرائيلي أن أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هي «داعشية»!
في المقابل، فإن بعض العرب يمعنون في تدمير أدوات ومناهج فهم الصراع، في السابق وحتى اليوم، فلا اعتماد للمنهج العلمي العقلاني في مواجهة ذلك الصلف الإسرائيلي، وقد تراكمت الأوجاع، وتفشى عدم الاستقرار في البلاد العربية، ودُفع ثمن إنساني هائل، طفق البعض حتى اليوم لترويج «الشعوذة» لتفسير هذا الصراع، وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة فرص تعميق ذلك التوجه غير العقلاني؛ ما يضيّع فرص الفهم الأكثر وضوحاً للقضية، ويدخل الجمهور العربي في متاهات، ويغير سُلم الأولويات.
لقد اندلعت في الأسابيع الأخيرة حرب كلامية بين الفرقاء العرب، وصلت مرحلة كريهة، وفرغت سمومها على الآخر العربي، سواء كان مصرياً، أو مغربياً أو خليجياً، وقد نال الأخيران الكثير من ذلك التنمر، في محاولة للشيطنة، قال بعضهم: «إن طائرات عربية تساعد الطيران الإسرائيلي في قصف غزة»!! وذهب آخرون إلى أن بعض العرب قد «طلبوا من إسرائيل إبادة (حماس)»!! وفي بعض التعبيرات لم تنجُ حتى السلطة الفلسطينية من التجريح والتخوين. وآخرون هددوا بأن أحداث اليوم تشبه أحداث عام 1948 التي على إثرها قامت مجموعات عسكرية عربية بانقلاب على حكوماتها، وأن ذلك سوف يتكرر من جديد! من دون الوعي بأن تلك الحكومات العسكرية لم تقدم إلا القمع والفقر، وزيادة خسارة الأرض العربية فوق كل ذلك، كل تلك التفسيرات ليست أكثر من شعوذة.
في السياسة، معركة غزة يجب تحويلها إلى مكان تغيير الأغلبية المتوحشة إلى أقلية، وإعانة شريحة إسرائيلية تقبل بالتساكن مع دولة فلسطينية كي تكون أكثرية، إن لم تتوافر الأدوات السياسية؛ لذلك فإن التضحيات الكبرى لأهل غزة خسارة كاملة، كما كانت خسارة 10 في المائة منهم عام 1936 من دون نتيجة! فهل من عقل سياسي!
آخر الكلام: اختطاف السفن من عرض البحر هو قرصنة، ولا يقدم للقضية إلا السلبيات!!