في كل انتهاء عام ميلادي تضجّ وسائل الإعلام بالتنبؤات، حتى أصبح التنبؤ "مهنة" من لا مهنة له، ولحقها العديد من محطات التلفزيون والإذاعات، لتقدّم للمشاهد والمستمع "المسكين" مجموعة من التوقعات، وفي أغلبها ضرب بالغيب وتخرصات لا معنى لها. ورغم أنّ هذه الظاهرة تكاد تكون إنسانية، أي عابرة للثقافات، الاّ انّها تتجذّر أكثر في الثقافات التي ما زالت عنيدة عن العلم بمعناه العام ،فتلك الثقافات تنقصها الإلمام بمنهج حديث في التفكير، لذلك تركن إلى الخرافة.
دعوني أعرض عليكم هذه الحكاية الواقعية، في فشل تلك التوقعات، حتى وإن كانت "علمية". ففي وسط الثلاثينات من القرن الماضي، قرّر الكونغرس الأميركي أن يتعرف على مستقبل التقنية في الولايات المتحدة، فشكّل لجنة متخصّصة، بالطبع ضمّت أفضل العقول العلمية وقتها من أولئك المشهود لهم بالدراية والمعرفة و العمل العلمي، وعكفت اللجنة على دراسة الموضوع الهام، وهو مستقبل التقنية في الولايات المتحدة في السنوات الثلاثين المقبلة!، وقتها كانت المنافسة شديدة بين تقدّم تقني تقوده ألمانيا (النازية) في أوروبا، وبين الولايات المتحدة، الفخورة بتقدّم العلوم و التقنية عندها.
قدّمت اللجنة دراستها إلى الكونغرس عام 1937 أي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بعامين، وكان التقرير شاملاً لمنظورات اللجنة الفنية العليا حول العلم والتقنية.
من بين الأمور الكثيرة التي فات اللجنة التنبؤ بها، ظهور الكمبيوتر كما عُرف لاحقاً، والرادار المتابع لحركة الطيران، والمضادات الحيوية، وقرّرت اللجنة "أنّ الطائرات لا تستطيع أن تطير بسرعة أكثر مما كانت عليه عام 1937"! من بين أمور أخرى كثيرة، فات اللجنة ذات الكفاءات العالية أن تتنبأ بها! اذاً، اذا كانت لجنة علمية ذات مستوى رفيع لا تستطيع ان تتعرف على تطورات مهمّة كانت في الأفق، فأين لرجل او امرأة، محدودة المعرفة أن يتنبآ بما سيأتي من أحداث؟ تكرّرت تلك الصيغة التنبوئية على غرار اللجنة الأميركية في كتب الن توفلر، عالم المستقبليات الأميركي في كتابه "صدمة المستقبل" الذي صدر في السبعينات من القرن الماضي، وفشل رجل المستقبل أن يتنبأ بظهور تكنولوجيا الإنترنت، والتي عُرفت فقط بعد سنوات قليلة من صدور الكتاب.
إذاً، هناك نسبية علمية في القدرة على التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المجال العلمي، الذي هو أكثر تحديداً ودقّة نسبية من المجال الاجتماعي او السياسي، فما بالك لو كان التنبؤ في المجال الاجتماعي أو الثقافي او السياسي، و الذي يصعب التنبؤ به. فما سيحدث غداً هو أمر يمكن أن يختلف عليه في ضوء معارفنا وأمنياتنا وخلفيتنا العلمية والثقافية، وفي ضوء التطورات التقنية الهائلة وتطور سرعة الاتصال والمواصلات في عصرنا، فإنّ التنبؤ هو من أكبر العوائق التي تعوق المعرفة البشرية اليوم.
إذا كان الأمر صحيحاً بهذا المعنى فما نحن فيه الآن من علاقة شائكة (بين الثقافة العربية، والثقافة الأوروبية) والتي يهدّدها الإرهاب والهجرة العربية إلى أوروبا، والشكوك المتبادلة، وربما يكون زمننا في نظر الزمن التاريخ، أقل الفترات تأثيراً على المستقبل، فما يحدث في غزة من اجتثاث شعب ووقوف الغرب متفرجاً في الغالب امامه، وهو ما نعرفه "الكيل بمكيالين"، يضع العلاقة مع الغرب، موضع الشكوك.
ما نشاهده اليوم في العلاقات الأوروبية- العربية الذي سبّبته أحداث غزة، هو ما يمكن أن يُسمّى بتحالف المتعصبين. فهناك تشدّد لدى بعض العرب تجاه "الحضارة الغربية"، وهناك تشدّد مضاد لدى بعض الغربيين تجاه "الحضارة العربية الإسلامية" او ما يُعرف لدى كثير منهم بالإسلاموفوبيا، ونستطيع أن نشاهد هذا التشدّد في مظاهر كثيرة، فهناك "الإرهاب" الذي تعتقد أوروبا انّه قادم من الشرق الإسلامي ويقتل من البشر الأبرياء عدداً كبيراً من دون ذنب أو تهمة، وهناك التشدّد الأوروبي المقابل الذي بسببه تتجّه بعض الشعوب الأوروبية لمناصرة "اليمين" السياسي الداعي لطرد العرب من أوروبا، وهو الآن بالملايين. بين هذا التطرّف وذاك التطرّف ينسى البعض العلاقات الطويلة والمثمرة بين الثقافتين العربية والأوروبية. ومن دون الدخول في التفاصيل، نذكر أنّ الأرقام التي تستخدمها الحضارة الغربية اليوم هي أرقام عربية، ولولا الصفر الذي اكتشفه العرب لما استطاعت صناعات حديثة كبيرة أن تقوم أقلها هذا الكمبيوتر الذي تقوم عليه حضارة اليوم بأكملها، كما أنّ الدين "الذي تدين به أوروبا" هو دين شرقي، ومن يشاهد فيلم "الآم المسيح" الذي عُرض منذ سنوات، ونال أكبر دخل لفيلم سينمائي في التاريخ، يرى ويسمع أنّ "اللغات الشرقية القديمة" كانت مزيجاً مما تطور باللغة العربية. وفي جانب آخر، فإنّ ما لا يُعدّ من المنتج الحضاري الغربي يستخدمه العرب اليوم، من الطائرة إلى المكيّف إلى السيارة إلى الأدوية الحديثة.
هناك إذاً أخذ وعطاء لا ينكره منصف، والعلاقة بين الحضارتين العربية والأوروبية "الغربية" مرّت بمراحل عديدة من التبادل الثقافي والحضاري، بدأ من الحضارة اليونانية التي استلهمت كثيراً من مبادئها الحضارة العربية الإسلامية، ونقل نتاجها من خلال الحضارة العربية وما أضافت إليها، إلى الاندلس العربية ومنها إلى أوروبا، كما قامت الحضارة العربية الإسلامية من خلال توسطها بالتوافق بين العلم والإيمان، بين الفلسفة و الدين، ولم يكن ذلك ممكنا ألاّ بإعمال العقل الذي مجّدته الحضارة العربية الإسلامية اكبر تمجيد.
ومع أنّ فترة العصور الوسطى قد اتسمت بصراعات مختلفة حين اعتقد الآباء المسيحيون "الكاثوليك" بإعادة "المسلمين إلى المسيحية"! وفي ذلك تعصّب مشهود، ظلّ الفكر الغربي ينظر إلى المنطقة الإسلامية نظرة عداء وتهديد ومبعث خوف ورهبة، إلّا أنّ الوضع بشكل عام كان مختلفاً لدى الثقافة العربية الإسلامية، حيث اعتمدت على قبول وجود "المسيحية" وأنّها دين الله، من ضمن الأديان التي اعترف بها الإسلام، فلم تجر محاولات كبيرة مثل ما جرت في آسيا لدفع الثقافة الإسلامية إلى أوروبا، كان "أهل الكتاب" لهم موقع خاص في السياق الإسلامي في العصرين الاول و الوسيط.
لقد ساعدت الثقافة العربية الإسلامية في دفع الحضارة الغربية إلى التوازن و الوسطية في عصر التخلّف الأوروبي، حيث كانت أوروبا تدفع بإحلال السلطة الدينية محل العقلانية، فكانت السببية التي قال بها المفكرون الإسلاميون هي الدرجات الأولى التي ارتقى عليها عصر الأنوار الأوروبي.
ولكن حينما بدأ الاحتكاك المباشر بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية في الاندلس وفي صقلية وبيزنطة، ومن ثم الحروب الصليبية وما صاحبها من صراع من جهة ومعرفة من جهة أخرى، ونشاط الترجمة للنصوص الإسلامية واليونانية (المترجمة إلى العربية) إلى اللاتينية، كان التواصل والتعرّف والمساومة أيضاً.
فلماذا في عصرنا الحاضر تأخذ الثقافة الأوروبية بشكل عام هذا الموقف المتعصّب ضدّ العرب، وما نشاهده من مواقف، منها رفع أسوار الهجرة أمام أهل الشرق، والموقف السياسي لنصرة المعتدي على المعتدى عليها كما يحدث اليوم في غزة والقضية الفلسطينية، فكيف نتنبأ بمستقبل العلاقة في السنوات القادمة؟ طبعاً من الصعب ذلك، الاّ إذا نظرنا الى واقعنا العربي، وهو واقع مشتت تتداخل فيه الصغائر والكبائر، واقع لا يسرّ و لا يوجد فيه احتمال رافعة تنقذه من المصير المحتوم ، وهو تغليب المعتدي على المعتدى عليه، بسبب قصر نظر تاريخي وتقاعس من جانبنا لرؤية العالم كما يتكوّن، وهو الآن يتكوّن من تكتلات، ونحن نعبئ النفوس باتجاه الوحدات الأصغر والأضعف، وما تشتت الفلسطينيين بين بعضهم سوى جزء من الظاهرة العامة. فأي عام مختلف ننتظر؟ إن لم نصلح في أنفسنا فسوف نظل ندفع ثمن المغلوبين!