بقلم - حنا صالح
كان رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي في طريق عودته من باريس، مزوداً بالتمنيات لإقناع «حزب الله» بخفض المواجهة، فتسلم الرد بالرفض بقصف مواقع عسكرية إسرائيلية قرب حيفا، في تجاوزٍ كبير لمنحى ردود «الحزب» باستهداف مواقع منتشرة على تخوم مزارع شبعا أو الجولان المحتل أو مستوطنات خالية من السكان.
يصل إلى بيروت وزير خارجية فرنسا ستيفان سيجورنيه حاملاً ورقة فرنسية تضمنت تعديلات طلبها لبنان، من بينها استبدال طلب انسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني بعبارة «إعادة تموضع»، فيواجه بموقف «لا نقاش لوقف الحرب في الجنوب بينما الحرب مستمرة في غزة»، وتالياً توصيف زيارة رئيس الدبلوماسية الفرنسية بأن لا هدف لها سوى فصل جبهة الجنوب عن غزة!
على مدى الأشهر الماضية، يمكن تلخيص السياسات التي ميزت مواقف «حزب الله» بأنها حملت إمعاناً في إحباط كل منحى لاستعادة أمن الجنوب بما يحدُّ من حجم الخسائر المخيفة، التي ترتبت على العدوانية الصهيونية. وأظهرت المواقف كما الممارسة إصراراً على المضي في «ميني» حرب لـ«مشاغلة» العدو تحت عنوان «إسناد» غزة، وهو أمر لم يحقق أي نتيجة. كما أن «الحزب» فقد إمكانية المبادرة ولم ينجح في مخطط إبقاء العمليات منخفضة الكثافة، ما رتب خسائر كبيرة على البلد، ونوعية بالنسبة إلى قدراته العسكرية؛ إذ اتسع استهداف القيادات الميدانية نتيجة الانكشاف الاستخباراتي والاختراقات الواسعة للبنان وسوريا.
وبين أخطر ما يشهده المواطن اللبناني، والجنوبي خصوصاً، هو ما يكمن في محاولات «الحزب» الإقناع بأن الخسائر الكارثية «مجدية»! يعني أن الخراب العميم، نتيجة انفلات آلة الإجرام الصهيوني من عقالها قتلاً وتهجيراً قسرياً، وجرف اقتصاد الجنوب مع تدمير سبل العيش، التي سيكون متعذراً تعويضها مع ازدياد الانهيار العام، له «إيجابيات» في عيون «الحزب» لا تراها عيون المواطنين.
والأسوأ أنه بعد نحوٍ من 210 أيام على «طوفان الأقصى» يستمر «التذاكي» بالزعم أنه متعذر على «حزب الله» أي انسحاب؛ لأن الانسحاب المطلوب يعني إخلاء أهالي البلدات المستهدفة لبيوتهم. ويقدم النائب السابق نواف الموسوي تفسيراً جديداً للقرار 1701، فيزعم أنه لم يرد فيه «منطقة عازلة جنوب الليطاني»، بل: «منطقة ينتشر فيها الجيش اللبناني واليونيفيل، ويمنع فيها أي سلاح لا توافق عليه الحكومة اللبنانية». وهنا إشارة واضحة لاعتبار السلاح الميليشياوي جنوب الليطاني شرعياً كرّسه الإقرار الرسمي للثلاثية الخطيرة «جيش وشعب ومقاومة»، التي تضمنتها البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ عام 2008، بعد احتلال بيروت ومؤتمر الدوحة، الذي كرّس «الثلث المعطل» بوصفه «حقّاً» لـ«حزب الله» بالفيتو على الدولة والبلد!
على أعين الناس، ووسط إخفاء مريب وتغييب مقصود لحصيلة دمار أشهر حرب «المشاغلة»، يتكشف حجم الإمعان الخطير في تجاهل النتائج المأساوية التي حققها الكيان الإسرائيلي على الأرض، نتيجة استراتيجية «الحزام الناري» الذي أطلق تدميراً ممنهجاً مبرمجاً طال نحو 60 بلدة وقرية حدودية. اتسع حجم المنطقة المحروقة، ويجري فرض «حزام أمني» بعمق يتجاوز أحياناً الـ5 كيلومترات، يسيطر عليه الكيان بالنار. إنه جزء بالغ الخطورة في مخطط إقامة منطقة عازلة، تحول في أي وقت دون إمكانية تكرار «7 أكتوبر (تشرين الأول)» من لبنان. وهنا يدرك القاصي والداني أن هذا المنحى مغطى أميركياً وأطلسياً، بعدما أظهرت تطورات حرب التوحش الصهيوني على غزة، وتداعيات الحروب المواكبة لها التي أطلقتها طهران عبر أذرعها، تماهياً غربياً مع الكيان الصهيوني، ترجمته أنه ممنوع هزيمة إسرائيل وممنوع إلحاق الخسائر الجدية بها؛ إذ ذاك يثور السؤال طارحاً نفسه: لماذا يتم تسهيل مهمة الكيان الإسرائيلي وخدمة لأي هدف المضي في حرب تضرب منطق الدولة وتضع لبنان على طريق التلاشي؟في إحدى خطب نصرالله مواكبة لحرب «المشاغلة» ونتائجها، قال إنه لا قلق من قيام الإسرائيلي باحتلال الأرض، المهم استمرار العمليات ضده. وإذ انتقد ما عدّه تضخيماً للخسائر في الجنوب وقدم قراءته لحجم خسائر إسرائيل، رأى أنَّ جدوى حقيقية تكون في تحقيق انتصار بالنقاط (...)، أي يكفي بقاء من يرفع البندقية والراية فوق الأنقاض، وآخر الأمثلة صورة يحيى السنوار خارج الأنفاق على أنقاض غزة! فوفق ترويجات محور الممانعة، سيؤدي ذلك إلى وضع إسرائيل على طريق الزوال!
إن هاجس «الحزب» ومحوره، كما عبر نعيم قاسم، يكمن بأن «السلاح باقٍ يصنع المستقبل»! هذا المستقبل تضمنته رسالة «الحزب» إلى المستضعفين (16 فبراير (شباط) 1985)، «بأننا أبناء أمة (حزب الله) نلتزم أوامر قيادة واحدة حكيمة وعادلة تتمثل بالولي الفقيه»! والولي الفقيه الذي استثمر في هذا المحور أراد شبكة أمان للدفاع المباشر عنه وعن تمدده وتصديره لـ«ثورته»! إن المتابعة الدقيقة لطروحات «الحزب» وأداءه في السلطة وخارجها كتحويله لبنان «ميدان» مواجهة، تؤكد أن مصالح الخارج هي أجندته، بدليل دويلته الموازية واغتصابه السيادة وقرار البلد، وتحوله إلى قوة جوالة تخوض حروب المنطقة وكالةً عن دولة الولي الفقيه!
خطير ما يتم الترويج له من مشاريع صفقات وتسويات إقليمية قد يكون لبنان جزءاً منها، تفضي كما يروج محور الممانعة إلى استقرار أمني وسياسي واقتصادي، في تجاهلٍ للثمن الذي سيترتب على لبنان دفعه بعيداً عن أي دور لمؤسساته الشرعية وحتى شراكة لها، ما يعني ازدراءً كاملاً لمصالحه ومصالح شعبه، وأحد الأدلة صفقة ترسيم الحدود البحرية التي فرضت على لبنان تخلياً عن سيادته وثروته!
وخطير جداً الحاضر في انتظار «اليوم التالي» الذي يريدونه تغييراً نحو الأخطر بمعنى تكريس منحى انحلال الدولة! فيما المؤكد أن لا طريق لحلٍّ لبناني حقيقي ومستدام مع استمرار الخلل الوطني بموازين القوى. والقناعة عميقة وواسعة بأن إنهاء هذا الخلل مسار ممكن، تظهّر شعبياً مرة في «انتفاضة الاستقلال» عام 2005 التي غدرت بها قياداتها الطائفية وذهبت إلى الاتفاق الرباعي مع «حزب الله». كما تظهّر ثانية في ثورة «17 تشرين» 2019، وتأكد لاحقاً في التصويت العقابي في 15 مايو (أيار) 2022. لذا الرد منتظر من النخب المبعدة والمناخ «التشريني» الكامن.