بقلم:حنا صالح
لأن الخطر داهم على وجود لبنان فلا شيء يفوق أهمية بذل الجهود على كل المستويات لدرئه. بدء الحرب البرية ضد جنوب غزة انطلاقاً من خان يونس يسلط الضوء على المخطط الإسرائيلي لليوم التالي!
صار معروفاً أن ما تشهده غزة من توحش إسرائيلي يستند إلى دعم وتشجيع أميركي وأطلسي عموماً. لا يوقفه ما يشهده العالم «لايف» من تدمير ممنهج وإبادة جماعية واقتلاع ودفع قسري للمواطنين الفلسطينيين باتجاه رفح وحدود سيناء لخلق واقعٍ يفرض تهجيراً قسرياً. فالمخطط يفترض تقليص مساحة غزة، لإقامة حزام أمني يحمي المستوطنات وتهويد شمال القطاع. وما يجري من محاولة تقطيع للمنطقة هو عنوان تقويض القوة العسكرية الفلسطينية مهما تطلب ذلك، بحيث لا تلحظ التسوية اللاحقة للوضع أي بقاء لحكم «حماس» للقطاع ولا إدارتها للسلطة فيه. وفق تل أبيب وداعميها، من واشنطن إلى العواصم الأوروبية، هذا هو الشرط الشارط لضمان عودة الإسرائيليين إلى مستوطنات الغلاف.
الجبهة الشمالية أمام تحدٍ شبيه، يفيد المعلن بأنه كيف يمكن لتل أبيب أن تعيد مواطنيها إلى الجليل الأعلى والمستوطنات المحاذية للبنان، والوضع الأمني رهن مشيئة ميليشيا «حزب الله» التي جعلت من الجنوب ساحة «مشاغلة» للقوات الإسرائيلية؛ «مساندة» لغزة. ولئن كان «البنتاغون» قد نصح حكومة الحرب الإسرائيلية بألا تفتح جبهة ثانية؛ لأن واشنطن لا تعتبر من مصلحتها أن تتجاوز الحرب القطاع فتهدد بمواجهة إقليمية قد تنجم عنها تداعيات سلبية على مصالحها، فإن أصوات إسرائيلية مؤثرة تؤكد أن الحرب على لبنان آتية. يعلن وزير الدفاع يوآف غالانت أن «العد العكسي لعملية عسكرية ضد (حزب الله) بدأ»، ويهدد نتنياهو بأنه «إذا دخل (حزب الله) في الحرب فهذا يعني نهاية لبنان»!
بالغ الخطورة ربط الوضع اللبناني بالوضع في غزة عبر التصعيد المتدحرج الذي تعيشه جبهة الجنوب، مع الارتفاع اليومي في مستوى المواجهات عبر الخط الأزرق رغم نبرة التهديدات الإسرائيلية لـ«حزب الله» ولبنان على نحوٍ مثير. شعبياً تتسع المخاوف، سواء الذين عجزوا عن النزوح كما النازحين وكل اللبنانيين، والكل مدرك أن ما يجري من حرب «استنزاف» يرتد ضرراً مضاعفاً.
الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ترفض الحرب ولا تريد امتدادها وتوسعها، وترفض أن ترغم على حربٍ لا تستطيع تحمل تبعاتها، مرجعية قرارها في طهران وأدواتها تستسهل استعادة مرحلة «فتح لاند»، متعامية عما جرّه ذلك من ويلات. آخر استهانة باللبنانيين وكرامة البلد وسيادته، التعدي الصارخ الذي مثّله إعلان «حماس» لبنان، عن بدء تأسيس «طلائع طوفان الأقصى»، للانضمام إلى المقاومين على طريق تحرير الأقصى والقدس (...)، والمهين أن بقايا الشرعية، حكومة الواجهة بلعت لسانها غير آبهة بالاستفزاز المتعمد، متجاهلة مرحلة التجارب القاتلة وويلاتها!
في هذا التوقيت، ومع التوحش الصهيوني في الحرب على غزة، وتفاقم الإبادة الجماعية، يتصاعد خطر انزلاق لبنان قسراً إلى الحرب، وتتزايد احتمالات توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية عنيفة للبنان، لا درء لهذا الخطر ولا حماية للبنانيين بـ«قواعد الاشتباك» المطمئن لبقائها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. إن المصلحة الوطنية تحتم على النخب الوطنية تحريك وضع شعبي رافضٍ لمخطط توريط لبنان في الحرب، ضاغطٍ على السلطة والطبقة السياسية لفرض عودة مبدئية حازمة إلى القرار الدولي 1701 وإعلان الالتزام الفعلي بمندرجاته لملاقاة المجتمع الدولي الذي ينبه ويحذر من خطر فتح جبهة الجنوب. للتذكير فإن القرار 1701 الذي اتخذه مجلس الأمن بالإجماع يوم 11 أغسطس (آب) 2006، مستنداً إلى البنود الـ7 للحكومة اللبنانية أفضى إلى رفع عدد «اليونيفيل إلى 15 ألف رجل لإعادة الأمن للجنوب ولدعم السيادة». وافقت عليه الحكومة اللبنانية في اليوم التالي لصدوره بإجماع أعضائها بما في ذلك وزير «حزب الله» محمد فنيش، وفي ذات النهار أعلن حسن نصر الله أن ميليشيا حزبه سوف تحترم وقف إطلاق النار!
إن جانباً كبيراً من القرار، وهو انتصار للبنان، لم ينفذ، بالأخص البند الثامن الذي يشدد على: «إقامة منطقة بين الخط الأزرق والليطاني خالية من أي مسلحين أو ممتلكات أو أسلحة غير تلك التي تنشرها في المنطقة الحكومة اللبنانية وقوة الطوارئ الدولية». تقع المسؤولية عن ذلك على عاتق الطبقة السياسية والحكومات المتعاقبة التي شرعت الدور الميليشياوي لـ«حزب الله» عبر الثلاثية الخشبية؛ جيش وشعب ومقاومة! فكان أن أضاعت الطبقة السياسية فرصة بسط السلطة سيادة غير منقوصة على كل لبنان، وتستمر اليوم في إدارة الظهر للمخاطر الداهمة، كما الانهيار الداخلي المالي والاقتصادي والاجتماعي. تتسلى بالتافه من الأمور، والبلد متروك مقطوع الرأس، والفراغ والتسيب يعمّان مؤسسات السلطة. لقد تناسوا الشغور في الرئاسة وباتت المماحكات تدور حول الشغور الزاحف إلى قيادة الجيش!
من دون أوهام لن يرضخ «حزب الله» لأي حالة شعبية رافضة زج لبنان في الحرب، لكنه سيتعذر عليه تجاهل تأثيرها رغم التزامه قرار طهران توسيع «المشاغلة» التي يوظفها النظام الإيراني لتأمين مكانة له على مائدة التفاوض اللاحق، تماماً كما يستخدم الميليشيات الحوثية في استهداف أحد أبرز ممرات التجارة الدولية. لكن كما أن صواريخ الحوثيين ومسيّراتهم لم تخفف من وطأة الإجرام الصهيوني، بل بدأت تجلب الأساطيل للتعامل معها، فيما «المساندة» عبر الجنوب تضع لبنان في عنق الزجاجة!
أمام هذا الوضع لا بديل عن سلاح الموقف المستند إلى دعم المواطنين لتعرية التخاذل الرسمي، وكشف أهداف الذين استباحوا الجنوب، ما سينعكس حتماً بالإيجاب على المشروع السياسي البديل: بناء «الكتلة التاريخية» لإنهاء الخلل الوطني بموازين القوى ليكون متاحاً فتح الباب لإعادة تكوين السلطة على قاعدة تسوية مستدامة!