لا تستقيم المقارنة بين حرب «العبور» يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973، و«طوفان الأقصى» يوم 7 أكتوبر 2023، إلّا من جهة عنصر المفاجأة؛ ليتحقق في المرتين انتصار مؤزر ضد إسرائيل.
الفارق نوعي وكبير بين الحدثين، يبدأ بأن حرب 73 استهدفت المحتل الإسرائيلي على أراضٍ عربية محتلة في سيناء والجولان، فيما نقل «الطوفان» المواجهة للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وليستمر القتال أكثر من 72 ساعة، قبل أن يعلن الجيش الإسرائيلي «استعادة السيطرة»، بعدما تكبدت إسرائيل خسائر بشرية لم تعهدها في كلِّ حروبها!
ومع تأكيد أن الحروب بخواتيمها، ومع الأخذ في الاعتبار الحجم العسكري للطرفين، والجسر الجوي الأميركي من القنابل الذكية والصواريخ، فإن بدء تل أبيب ارتكاب جرائم حربٍ وإبادة جماعية في غزة، لن يمكنها من محو آثار كسر الغطرسة الصهيونية. من المستحيل تجاوز ما اعترفت به «هآرتس» من أن الشعور بالأمن قد انهار، وتم نقل الحرب إلى داخل «المناطق الإسرائيلية».
مشاهد الدمار الآخذة في الاتساع في غزة، والجثث المقطعة تحت الركام، لن تنجح في إزالة الآثار النفسية والندوب العميقة لدى الإسرائيليين، المتأتية من مشاهد هوليوودية بسحب ضابط إسرائيلي من برج دبابة «الميركافا»، أو اقتياد الأسرى العسكريين والمستوطنين على الأقدام إلى غزة، في مشهدٍ أشبه بنزهة خريفية. فمهما اشتد الدمار في غزة وازداد عدد الضحايا، فإن «طوفان الأقصى» اخترق الحصار، وأسقط أوهام مناعة الجدران العازلة الممغنطة، وأوهام القدرة اللامحدودة لجهاز «الموساد» القادر على إحصاء الأنفاس. واليوم لن تُستعاد الهيبة عبر حرب التجويع، كما أن الإبادة الجارية لن تمكّن تل أبيب من استعادة قوتها الردعية؛ لأن «7 أكتوبر» حدث قابل للتكرار، إن استمر الصلف الصهيوني الذي أضاع كل فرص السلام والتسوية، بدءاً من تجاهل التقاط معنى اللحظة التي مثلتها المصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، كما أشار عن حق الأستاذ غسان شربل.
لقد وافق المفاوض الفلسطيني في أوسلو على دولة تقوم على 22 في المائة من أرض فلسطين. دمرت إسرائيل هذه الإمكانية، وابتلعت المستوطنات الأرض، وهُدرت الحقوق، ولم يبقَ إلّا بعض التنسيق الأمني. وبعدها أسقطت تل أبيب مبادرة قمة بيروت العربية (2002) «الأرض مقابل السلام»، التي تمثل أساساً صلباً لتسوية عادلة، لا تسقط معطيات ووقائع مرّ عليها الوقت. فأوصل تاريخ من التطرف الصهيوني العنصري والتنكر للحقوق، إلى «أسوأ يومٍ في تاريخ إسرائيل»، وفق ناحوم بارنيا، الكاتب في «يديعوت أحرونوت». لذلك تبدو المنطقة كلها اليوم أمام وضعٍ جديد، أمام سابقة لم تكن حتى في الخيال يصعب التنبؤ بمآلاتها.
نعم «7 أكتوبر» حدث فلسطيني «حمساوي» كبير، لكن البصمات والرعاية الإيرانية بارزة. من تدريبٍ وتسليحٍ وتجهيزٍ، إلى تحديد توقيت دقيق للهجوم- الاختراق، براً وجواً وبحراً وعبر الأنفاق، ومن ثمّ مسارعة قادة «حماس» للتواصل مع القادة الإيرانيين، وترداد شعارات نظام الملالي عن إمكانية موهومة لإزالة إسرائيل من الوجود، التي كلفت حتى اليوم خراباً عميماً قسّم الفلسطينيين، وأضعفهم وأنهى استقرار العراق وسوريا ولبنان، وهشّم مؤسسات هذه البلدان، وأحل فيها الفراغ والفوضى، ومزق نسيجها البشري! وكان لافتاً التناغم «الإيراني- الحمساوي» الداعي إلى تمدد المواجهة إلى الضفة الغربية والقدس ولبنان (...)؛ ليقابل بإعلان النائب محمد رعد أنه «آن أوان التخلص من أعباء هذا الكيان وتسلطه». ويعلن هاشم صفي الدين (رئيس المجلس التنفيذي لـ«حزب الله») أن: «مشهد دخول المستوطنات في غلاف غزة... سيتكرر في يومٍ من الأيام مضاعفاً عشرات المرات في لبنان»!
في لحظة اتساع المقتلة في غزة ولبنان في عين العاصفة، هناك اطمئنان نسبي في طهران أنه -حتى إشعار آخر- شُطب مخطط إسرائيل لاستهداف المشروع النووي الإيراني، وأنه سيكون متعذراً على المدى القريب إقفال الجسر البري الذي يربط طهران بالمتوسط، كما قد يتأخر مسار التطبيع العربي مع إسرائيل... وبيت القصيد هنا فرملة السعي لتسوية سياسية سيكون من شأنها تعطيل الاستثمار الإيراني في القضية الفلسطينية.
في السياق ذاته، إن تمكن لبنان من تحييد نفسه فسينجو، وإن أخطأ «حزب الله» في قراءة المشهد والتبصر بالحدث وقدّم المصالح الإيرانية، فإن مصير لبنان مرشحٌ ليكون أشد قتامة من أي تخيل.
إن توسل تحريك جبهة الجنوب عبر واجهات لـ«الحزب» من «الجهاد» أو «حماس»، لن يخفف من ضغط الحرب الإجرامية على غزة، وسيأخذ لبنان إلى الهاوية. الحدث أكبر من ممارسة التذاكي بتجاهل أن ما يجري ليس معركة بين حزبين؛ بل هي حرب مكتملة الأركان. ومع الافتقاد الكلي للسلطة السياسية التي التحقت بـ«حزب الله»، متعامية عن محاولات توريط لبنان، متجاهلة مسؤوليتها عن تحريك الجيش و«اليونيفيل» للقيام بواجبهما حمايةً للحدود، على اللبنانيين المتروكين لمصيرهم التكاتف ورفع الصوت رفضاً لهذا التوريط ولمخطط طهران «ربط الساحات» المدمر.
المقلق هنا هو أن القرار في طهران وليس في أي مكانٍ آخر، يؤكد ذلك ما نُقل عن مسؤول أمني مصري أن «القادة التاريخيين لـ(حماس) الذين يعيشون بالخارج علموا بالعملية من القنوات الإخبارية»! وهذا يذكّر بالعبارة الشهيرة: «لو كنت أعلم» التي أطلقها حسن نصر الله في حرب يوليو (تموز) 2006!
يبقى أن مأثرة «7 أكتوبر» الفلسطيني فيها تأكيد على أن لا سلم ولا أمان لإسرائيل وحدها، والأساس يكمن في الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. لقد وضع «طوفان الأقصى» المجتمع الدولي، رغم انحيازه، أمام مسؤولياته السياسية والأخلاقية، ما يعني أن وضع القضية الفلسطينية على الرف، وعدم تطبيق القرارات الدولية والانحياز الأعمى للاحتلال، سيؤدي إلى طوفانات أخرى ستكون أكثر قوة واندفاعاً وأكثر امتداداً.