بقلم - حنا صالح
إنها مواجهة حقيقية يعيشها الجنوب الذي زُجّ به في معركة كبرى. الغارات الإجرامية الإسرائيلية استهدفت الداخل اللبناني، في مناطق في إقليم التفاح وجزين على بعد 40 كلم من الحدود، ويطول رد «حزب الله» كريات شمونة ويستخدم الطائرات المسيرة. بذلك يتجاوز القصف المتبادل ما كان يعرف بـ«قواعد الاشتباك»، وهذه مسألة اقتصرت على مزارع شبعا المحتلة منذ حرب الأيام الـ6 عام 1967، ولم ترسم حدودها نتيجة نزاع حدودي مع سوريا وإسرائيل، ولا تشمل أبداً جنوب الليطاني منطقة عمليات «اليونيفيل».
طال القصف المبرمج من البر والجو البلدات المحاذية للحدود، من البحر إلى العرقوب، محدثاً دماراً كبيراً يفوق دمار حرب تموز عام 2006، وقد يتعذر مستقبلاً إعادة الإعمار. الحصيلة ثقيلة جداً، إلى الدمار والخراب أصيب المئات، سقط من بينهم 150 ضحية، منهم 120 من «حزب الله». وطال التهجير كحدٍّ أدنى 100 ألف مواطن تُركوا لمصيرهم، تتكدس أكثريتهم في المدارس، وأسرٌ تنام في السيارات وحيث تيسر! وواضح أن توسيع المواجهة من جانب تل أبيب يحمل رسالة مفادها أن زمن «المشاغلة» التي قررها «الحزب» منذ 8 أكتوبر «مساندة» لغزة شارف على النهاية! وما نماذج التدمير الغزاوية التي طالت عدة بلدات جنوبية إلا المؤشر عن اقتراب مرحلة ولوج عتبة الحرب المفتوحة.
إصرار «حزب الله» على ربط الجنوب بغزة رسم صورة خطرة عن مستقبل قاتم للجنوب ولبنان، حتى إن قرار مجلس الأمن الدولي خلا من أي ترتيبات لوقف النار في القطاع كان سينعكس على لبنان. ولا يكاد يمر يوم دون تهديدات بتدمير بيروت، ويتحدث والإعلام الإسرائيلي عن قرار متخذ، واستعداد عسكري «لمعركة في عمق لبنان»، وأن ما يجري لن يستمر لأن «الأسابيع المقبلة قد تغير هذا الأمر». حتى إن شخصية عسكرية سياسية معارضة مثل إيهود باراك، الذي اتخذ قرار الانسحاب من لبنان عام 2000، يقول: «يجب أن ننتهي أولاً من أمر غزة ثم نتفرغ لمحاولة سياسية لإبعاد (حزب الله) عن الحدود».
توازياً لا يخلو خطاب «حزب الله» من تأكيد بأنه يعد العدة للانخراط في مواجهة أكبر إن قررها العدو، ويتم ترويج مقولة أن «الحزب» لم يزج في «المشاغلة» أكثر من 5 في المائة من قوته، مع تجاهل تام، وربما متعمد، أبعاد ما يعنيه فرض حرب كلاسيكية يسيطر فيها العدو على الجو، ويمتلك طاقة نارية تدميرية مخيفة، ويقابله مجموعات من «الغاريلا» وإن امتلكوا الصواريخ!
وبمواجهة الحراك الدبلوماسي، الفرنسي الغربي والعربي، لتجنيب لبنان الحرب، والتزام تطبيق القرار الدولي 1701 الذي أنهى حرب تموز وفرض انسحاباً إسرائيلياً قبل 17 سنة، يجري استسهال ترويج أخبار كوصف هذا الحراك بأنه يبحث عن «مخرجٍ لإسرائيل يسمح لنتنياهو بالقول للداخل الإسرائيلي إنه ألزم (حزب الله) احترام مندرجات القرار 1701»، وتتالى الترهات كالقول إن حكومة العدو «إذا كانت تريد الحرب فإنَّها لا تستطيعها»! وفيما لبنان يغرق نتيجة «شتوة» غير مفاجئة وتُعزل مدنه عن بعضها، وتجرف السيول السيارات وتحاصر المواطنين، يطل نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف الأعمال التي شكلها «حزب الله» ويتحكم في قرارها، ليتحدث عن «شروط» تطبيق القرار الدولي، كأنه مفوض باسم من «الحزب»، أو أن «المشاغلة» قرار رسمي لبناني، ولم تكن بإشارة من محور الممانعة الذي تقوده طهران خدمة لمصالحها، فوُضِعَ لبنان في عنق الزجاجة بالزعم أنه يدعم غزة وينتصر للغزاويين بوجه التوحش الصهيوني... ليتظهر أن لا مكانة لدى هذه الجهات للمواطن اللبناني، ولا اهتمام بحيوات اللبنانيين ومصالح الوطن، وبدا الأمر بمثابة الطابع المشترك بين الترويج اليومي ومواقف «حزب الله» وإطلالة ميقاتي!
إنها النتيجة الطبيعية لتحويل لبنان إلى ساحة في خدمة الآخرين، واستسهال تحويله إلى أرض محروقة، كما رصيف هجرة لمواطنين نكبوا بطبقة سياسية مصرفية تسلطت على البلد. الحكاية لم تبدأ اليوم، بل تعود إلى زمن «اتفاق القاهرة» عام 1969، عندما بصم البرلمان اللبناني، دون اطلاع، على اتفاقية التنازل عن السيادة، فكانت «فتح لاند» وما جرّته! ومنذ ذلك التاريخ طوى المتسلطون صفحة بناء الدولة، وذهبوا إلى بناء ميليشيات ومزيدٍ من تطييف السلطة وزج اللبنانيين في أتون حرب أهلية نعرف متى بدأت وهي مستمرة، بعدما اتخذت منذ تسعينات القرن الماضي أشكالاً أخرى!
لبنان ساحة لحروب المتسلطين وطموحات الطامحين طحنت أجيالاً وتركت جروحاً لم تندمل. إنهم الذين استسهلوا الحرب والكانتونات وراهنوا على سلاح فلسطيني لا شرعي أو على دبابات أرييل شارون للتسلط! هم تحالف مافياوي ميليشياوي مصرفي غطى اختطاف «حزب الله» للدولة، واحتكاره قرار الحرب والسلم، وروّج لأوهام نجاحات اقتصادية إعمارية، والسيادة منتقصة، والبلد ساحة لسلاح غير شرعي، استمر بعد عام 2000 رغم التحرير وتحديد 25 مايو (أيار) عيداً رسمياً له. لقد تجاهلوا التداعيات المتأتية عن بقاء سلاحٍ موازٍ لسلاح الشرعية، وتشاركوا كلهم وعن سابق تصور وتصميم نهب البلد وسلب المواطنين جنْي أعمارهم. ومنذ 4 سنوات ونيف على الانهيار، قدموا مصالحهم الخاصة واستئثارهم بالإمكانات المتبقية، فامتنعوا عمداً عن أي تدبير كان يمكن أن يحد من حجم الانهيار، واحتموا ناهبين ومرتكبين بـ«الحصانات» وقانون «الإفلات من العقاب»... حتى المدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل في تفجير بيروت هم خارج المساءلة! لقد تشاركوا في الاستفادة من الخلل الوطني بموازين القوى، وتعاموا عن مسؤولياتهم الوطنية، فراح المشروع الإقليمي البديل يتقدم على حساب مشروع الدولة! لبنان ساحة... إنه قرار التحالف المافياوي بموت مستمر للبنان واللبنانيين!