بقلم:حنا صالح
في خطابه أمام الدورة الـ78 للأمم المتحدة قبل نحو أسبوعين، عرض نتنياهو ما اعتبره «خريطة الشرق الأوسط الجديد»، التي تُظهر شمول حدود إسرائيل كامل الأراضي الفلسطينية، الضفة الغربية وقطاع غزة. خريطة تعبّر عن طموحات عنصرية وأحلام توسع لا تقف عند حدود، عندما تقول إن دولة واحدة، هي إسرائيل، موجودة بين النهر والبحر! أما سموتريتش وزير المالية المتطرف، فيعلن: «لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون»، وينشر خريطة تضم إلى أرض فلسطين، لبنان وسوريا بوصفهما جزءاً من «إسرائيل الكبرى»! هذا المنحى التوسعي ليس وليد اللحظة، إنه مرتبط بالنشوء، واتخذ مظهراً علنياً بعد قتل إسحاق رابين. تسلم نتنياهو من آرييل شارون مهمة قضم الأراضي وتوسيع الاستيطان وتقزيم حقوق الفلسطينيين لإنهاء «أوسلو»، وتدمير حلّ الدولتين، متوسلاً إبادة متدحرجة. وفي السياق استثمر بقوة في الصراع الفلسطيني، لم تمنعه حروب غزة من ممارسة تمييزٍ إيجابي حيال «حماس»، بوصفه وصفةً لمحاصرة السلطة وإضعافها وتهميشها وإظهار افتقادها للشرعية، فيتمكن من التذرع بغياب الشراكة الفلسطينية لفرملة مشروع السلام وإنهائه!
كل الممارسات الإسرائيلية كانت ترفض السلام، وتسقط المبادرات، وتعطل الاتفاقات، وتستبطن المناخ الملائم لتنفيذ أكبر «ترانسفير»، باتجاه سيناء والأردن، فيما التعديات الإجرامية اليومية كانت تستعجل الانفجار. وواقعياً إن الحرب على غزة سابقة على «طوفان الأقصى»، فسجن أكثر من مليوني غزاوي كان سيفضي إلى ثمن مؤلم يدفعه السجان. قيل الكثير عن «7 أكتوبر (تشرين الأول)» الفلسطيني، وهو حدث قابل للتكرار، لكن ما استتبعه إسرائيلياً من بدء حرب إبادة على غزة، مع دعم مفتوح وبلا حدود من جانب أميركا والعواصم الغربية، يقول إن الكثير مما جرى لم يعلن بعد، وإن كان البارز كسر الغطرسة الصهيونية مع الاعتراف بانهيار الأمن وتمزيق أوهام الهيبة والردع اللامحدود، إلى إظهار القدرة على تمزيق خريطة نتنياهو.
عندما تعلن تل أبيب أنها وضعت جانباً قوانين الحرب، لا تعود مستغربة مجزرة المستشفى المعمداني، فهدفها إجبار المدنيين على الفرار وتعجيل «الترانسفير» من غزة، بعدما منعت الماء والغذاء والدواء والكهرباء، تزامناً مع حملة التهجير وتوسل نتنياهو دمار القطاع لإنقاذ نفسه، وأمامه استطلاعات رأي تحمّله مسؤولية التخاذل والتقصير، وتلاقيه أميركا في جسر جوي يمدُّ إسرائيل بالقنابل الذكية والصواريخ، ويتم تحريك أكبر قوة بحرية إلى شرق المتوسط، وتُطرح الأسئلة عن أبعاد إرسال حاملة الطائرات «جيرالد فورد» لتُستتبع بأخرى «دوايت أيزنهاور»، تكون واشنطن قد وجهت عدة رسائل؛ أبرزها رسالة ردع لإيران و«حزب الله»، ودعم استخباراتي لإسرائيل، وسيطرة على الأجواء، فيما يشبه عودة أميركية إلى المنطقة من الباب الواسع، بعد وقت غير قصير على تهديدات النظام الإيراني التي قالت إن الانتقام لقاسم سليماني يكون باقتلاع الأميركيين... فكان الرد بالتخلي عن مبدأ «القيادة من الخلف»!
يستهدف الحضور القوي تجنب الانزلاق إلى مواجهة واسعة، فبالنسبة لأميركا والغرب عموماً الحرب على أوكرانيا كافية، وينبغي أن تستمر في الصدارة. لذا المسألة بعد نحو أسبوعين على «7 أكتوبر» أبعد من قضية غزة، التي لا تعالج فقط بتوسل استراتيجية العنف؛ لأن ذلك سيفضي في اليوم التالي إلى مزيد من العنف المضاد. مؤكدٌ أن الوزير بلينكن سمع الكثير في لقاءاته عن الرفض العربي لتغطية سياسة العقاب الجماعي والتهديد باستنساخ نكبة 1948، ومرجحٌ أن مطلب الحل السياسي كان الطبق الرئيسي في مباحثاته.
بهذا السياق برز الإعلان عن زيارة الرئيس الأميركي «التضامنية» مع إسرائيل، بمثابة حدث من خارج المألوف. زيارة لها بالتأكيد وظيفة داخلية في السنة الانتخابية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الرهان ممكن الآن لتغيير المسار، بعدما استبقت تل أبيب الزيارة بارتكاب جريمة المستشفى المعمداني التي ستبقى وصمة عار القتلة وداعميهم؟ كل قراءة متأنية لمعطيات المنطقة تؤكد أن الولايات المتحدة وحدها إن أرادت، قادرة على إحداث تقدم مقبول يصدم المتطرفين. لقد كانت لافتة المواقف الأخيرة للرئيس الأميركي برفضه احتلال غزة، وصولاً إلى تأكيده «أن حل الدولتين كان سياسة الولايات المتحدة لعقود من الزمن، ومن شأنه أن ينشئ دولة مستقلة للفلسطينيين إلى جانب إسرائيل». الكل ينتظر الآتي والترجمة الفعلية نقيض السياسات التي تتذكر الحل السياسي عند المنعطفات الكبرى. الآن لإقفال أبواب جهنم على المنطقة والعالم، مطلوب خطوات جدية لتأمين الحماية للشعب الفلسطيني تبدأ بوقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن.
تزامناً، مقلق ومخيف تدحرج المواجهة على جبهة جنوب لبنان، وتتالي سقوط الضحايا بين المدنيين الذين لم يتمكنوا من إخلاء بلداتهم. ومريب ما يشهده المواطن المتروك لمصيره من سقوط أخلاقي واستقالة السلطة من واجباتها ومن دورها ومن مسؤولياتها الوطنية، وبلغ الأمر في رئاسة البرلمان، وكالة عن «حزب الله»، منع صدور نداء نيابي يرفض الاستباحة و«جر لبنان إلى حربٍ مدمرة ليكون وقوداً في نار مصالح النظام الإيراني على حساب دم اللبنانيين ودمار لبنان».
هنا معروف أن جولة وزير خارجية إيران أمير عبداللهيان ولقاءاته قوى الممانعة، والنطق باسمها، موحياً أن بلاده ممسكة بكل الأوراق، أعطت الإشارة لبدء «حزب الله» تسخين جبهة جنوب لبنان بشكلٍ يومي، متجاهلاً الغضب الشعبي والرفض الواسع لتوريط لبنان في حرب لا قدرة للبنانيين على تحمل تبعاتها. على قاعدة الوضع المستجد هدد اللهيان بأن «اتساع جبهات الحرب وارد»، وأن «أيدي جميع الأطراف في المنطقة على الزناد»، وأن «الوقت بدأ ينفد واحتمال توسيع الحرب يقترب»! وحده مسار سلام مقبول يعطل التطرف الصهيوني ويحاصر العربدة الإيرانية.