بقلم:حنا صالح
في زمن باتت معه التطورات المتسارعة بين الـ17 من سبتمبر (أيلول) الماضي و8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أسرع من أي تحليل، فإن السؤال اللبناني الذي يتقدم ما عداه: ماذا فعلتم إبّان الحرب؟ وماذا تفعلون بعد اتفاق وقف إطلاق النار؟ والسؤال موجه إلى كل الطبقة السياسية اللبنانية، والأحزاب الطائفية، والقوى المؤتلفة موضوعياً في «نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي»، والكتل النيابية، وسائر النواب يتقدمهم رئيس البرلمان، وبالتأكيد حكومة تصريف الأعمال، رئاسةً وأعضاءً.
السؤال مطروح لأن التدقيق في المشهد العام للمنطقة يقدم صورة مغايرة عما كانت عليه في العقود الماضية. سوريا تتحرر من أعتى نظام قمعي ظلامي، ورئيسها الساقط هارب من العدالة، والسجون تفتح بأيدي السوريين، والأذرع الإيرانية تتهاوى، والجسر من طهران إلى المتوسط يفقد سوريا حلقته الأبرز فيما تصدعت حلقته اللبنانية... وإسرائيل تنتقم من سوريا الجديدة، فتدمر كامل قدراتها العسكرية، وتحتل أراضي في الجولان وجبل الشيخ، وتصبح على مسافة 40 كم جنوب دمشق.
في 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، دخل لبنان مرحلة اتفاق تجريبي لوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، استند إلى البنود الـ13 التي تتضمن آلية تنفيذ القرار الدولي 1701، ووضع الإشراف عليها بعهدة لجنة خماسية برئاسة جنرال أميركي، اجتمعت، الاثنين، وبحثت «دعم وقف الأعمال العدائية... لتحقيق التقدم في اتفاق وقف إطلاق النار، والقرار 1701». وتأكد أن الشرط الشارط لعدم تجدد الحرب العدوانية خطوات غير مشكوكٍ فيها لتنفيذ التزامات لبنان في الاتفاق. لكن اللافت أنه مع حلول زمن استعادة الدولة المخطوفة والسيادة لم يتبدل شيء في أداء بقايا سلطة تتحمل مسؤولية عميقة عن الحرب التي فرضها «حزب الله»، وتعامت عن تبعاتها، لا بل غطتها. وينسحب الموقف إياه إلى طبقة سياسية تخاذلت عن دورها بمواجهة سياسية جرّت البلد إلى الحرب. وعندما بدأت تظهر ملامح الكارثة، كان التخاذل المريع عن دعم مبادرات خارجية لوقف إطلاق النار رفضتها السلطة تنفيذاً لأجندة «حزب الله». ويبقى الصادم انعدام موقف البرلمان، المفترض أنه المختبر لصناعة السياسات العامة الملزمة للسلطة التنفيذية، فهو لم يلتئم طيلة 14 شهراً لمناقشة حرب دمرت البلد!
اللبنانيون أمام فرصة استثنائية لاستعادة الدولة، والعمل بالدستور. لكن ما يثير المخاوف أن المتسلطين من موالاة نظام المحاصصة ومعارضته، وهم تموضعوا بنسبٍ مختلفة في زمن سيطرة الوجود السوري ولاحقاً تحكم «حزب الله»، ما زالوا قابعين هناك، والأمثلة لا تحصى عن أداء مريب يشي بأنهم يريدون وقف الزمن. يكرر «الحزب» مواقف تحرف مضمون اتفاق وقف إطلاق النار، وتشي برغبة العودة إلى ما كان قبل الحرب، فيعلن النائب حسن فضل الله أن «حماية البلد تفترض تكاملاً بين المقاومة والجيش والشعب»، متجاوزاً المسؤولية عن حرب طُعِنَ فيها الجيش والشعب وتسببت في خسائر جسيمة، في البشر والعمران، وتهجير جماعي سيكون طويل الأمد لعشرات ألوف الأسر التي فقدت السقف وسبل العيش مع مسح عشرات البلدات عن الخريطة. طروحات لا تجد من ينبه من خطرها. لا وظيفة عسكرية لـ«حزب الله»، فالبلد دخل زمن تفكيك بنيته العسكرية بدءاً من جنوب الليطاني، فكل لبنان، ودخول السلاح بات وقفاً على قوى الشرعية التي يحق لها وحدها قانوناً احتكار القوة... لتبدو هواجس الآخرين وضع لمسات لرئاسة تتم محاصصتها، فيبقى الشغور مقيماً في رأس السلطة، ليتوزعوا مغانم الحكم مع تعديلات في الحصص تبعاً لموازين قوى لا تعكس عدالة حقيقية في التمثيل. وحتى يكون الوضوح مكتملاً، فهذا الأداء السياسي بعد كل هذه النكبة، متصادم مع الدستور، يحلق أصحابه فوق مسؤوليتهم عن الفساد والنهب ومصادرة العدالة وإذلال الناس.
خروج البلد من الكارثة واستعادته لسيادته يتطلب من دون إبطاء انتخاب شخص طبيعي لرئاسة الجمهورية، مدرك عمق الوجع، ويعرف حجم التغيير المتسارع مع سقوط أحجار الدومينو من غزة إلى لبنان وسوريا... فيمنع إلقاء تبعات على لبنان لا طاقة له على تحملها. قادر على تغطية قيام حكومة كفاءات، تقود مرحلة تثبيت وقف إطلاق النار، وبسط السيادة على حدود آمنة مستدامة: الجنوبية منها مثبتة في اتفاق الهدنة لعام 1949، والشرقية والشمالية التي أكد عليها القرار الدولي 1680، آن أوان استرجاعها للشرعية اللبنانية، كل ذلك تزامناً مع نهج يطلق مرحلة بدء استعادة التعافي.
لأن السلطة غارقة في مستنقع التبعية وممارسة الديكتاتورية على المجتمع، والطبقة السياسية استمرأت الاستباحة، لا قدرة لهم ولا مصلحة على البناء المستند إلى المحاسبة والشفافية... فإن مهمات كبيرة ملقاة على قوى التغيير لبلورة شبكة أمان وطنية عابرة للمناطق والطوائف. سيكون قيامها محفزاً لعودة المواطن إلى دوره بوصفه لاعباً سياسياً له صوت مستقل، يرسم خطابه طريق خروج حقيقي للبنان من الكارثة بتحميل المسؤولية لأصحابها: عن الحرب وتبعاتها، والمضي بهدر حقوق المواطنين والبلد، ومصادرة العدالة في جريمة تفجير مرفأ بيروت.
شبكة أمانٍ، تضع أولويتها إعادة تكوين السلطة المنبثقة من انتخابات نيابية مبكرة، لأنه حق للمواطن استرجاع صوته بعد السقوط المريع للبرلمان بكل قواه الطائفية.