بقلم:سوسن الأبطح
استدركت إسرائيل متأخرة، بأنَّها قدمت رواية «غير مناسبة» لمقتل زعيم «حماس» يحيى السنوار. قد تكون الصور الأولى مسرّبة أو مقصودة، لكنها أتت بنتائج عكسية. أرادات إسرائيل، إظهار رئيس «حماس»، في نهاية مأساوية، أو هكذا ظنت. رجل وحيد، ضعيف، جريح، انفض عنه الجميع، لا يملك من أمره سوى عصا (أداة بدائية) يقذف بها طائرة مسيّرة (التفوق العلمي) وهو ما يفترض أن يخلق إحساساً بالعجز والدونية والانكسار عند مناصريه. المسيّرة التي تلتقط الصور وتقصف، وتفعل كل ما تؤمر به، تهاجم قائداً أعزل إلا من عصاه التي تأرجحت في الهواء، عندما حاول الدفاع عن نفسه، وهوت. ثم نرى جنود الاحتلال أمام جثة مدمّاة، بإصبع مقطوعة، في رمزية كانت تفترض إسرائيل أن تجلب لها صورة النصر التي بحثت عنها طويلاً.
رأينا محللاً إسرائيلياً يتحدث، وقد أعياه الشرح، ليُفهم بني جلدته أن أحبة السنوار قرأوا كل ما عرض، عكس ما هدفت إليه إسرائيل تماماً، وأن وجوده، وحيداً وقتاله حتى النفس الأخير، وعدم استسلامه رغم إصابته البليغة، كل هذا جعله بطلاً في نظر مناصريه، وليس ذليلاً أو مهاناً.
المسافة بين الذهنيتين يصعب ردمها، وهي جزء من تراجيديا الحرب. ففي رأي إسرائيل أن الاغتيالات التي تكرّس لها الكثير من عملها الاستخباراتي، واغتيال القادة، هي أقرب الطرق لإيقاع هزيمة استعراضية بالخصم. لهذا تنتشي بعد اغتيال أي قائد عسكري من «حزب الله»، وخاصة بعد مقتل حسن نصر الله، مع علمها أنْ لا اختفاء الشيخ أحمد ياسين فرمل «حماس»، ولا اغتيال إسماعيل هنية أنهاها. فقد قتلت قبلهما عشرات المسؤولين الفلسطينيين من مختلف التنظيمات منذ سبعينات القرن الماضي. يموت شخص ويقوم مكانه أشد منه صلابة، ويقضي تنظيم ليولد آخر باسم مختلف، مع ذلك ظل سلاح الاغتيالات ماضياً. ويكرر المستوطنون مطالبتهم باستكمال قتل الأطفال والنساء والإكثار من نحر الأبرياء، وحين يسألون عن السبب، يجيبون: «كي نرهبهم لمرة واحدة، ويرتدعوا عن قتالنا». ولا إجابة عن إمكانية العيش بسلام لمجموعة بشرية قاتلة، كل المحيطين بها تلتهب نفوسهم عطشاً للثأر منهم، لأب أو ابن أو حبيب.
يعدّ «حزب الله» إصابة عشرات الجنود الإسرائيليين، كل يوم في جنوب لبنان، وإطلاق الصواريخ والمسيّرات على عشرات الأهداف داخل إسرائيل وإدخال مليون مستوطن إلى الملاجئ مع كل إنذار، هو بحد ذاته طريق إلى النصر. في المقابل تعمد إسرائيل إلى نسف المباني بالجملة، ومحو القرى وتهديم المدن، وقتل الأبرياء دون حساب، كوسيلة مثلى لتركيع «حزب الله».
وحين وصل وزير خارجية أميركا بلينكن، في زيارته الحادية عشرة إلى المنطقة، دفع بشروط لإيقاف الحرب، تفترض أن «حزب الله» بات مستعداً لرفع الراية البيضاء، كي يرضى بأن يترك لإسرائيل حرية الانقضاض عليه في أي وقت بعد وقف المعارك. وهو تماماً ما رفضته «حماس» سابقاً، مما يشي بأن نتنياهو سيمضي في حرق لبنان حتى يلفظ البلد أنفاسه الأخيرة.
إلى متى سيتمكن مقاتلو «حزب الله» من صد الهجمات الوحشية الإسرائيلية على القرى الجنوبية؟ سؤال صعب. نعرف أن المقاتلين نجحوا في منع إسرائيل من التقدم لأكثر من كيلومتر واحد على الحدود بعد معارك تقارب الشهر. أمَا وأن إسرائيل استنفدت أو قاربت أهدافها العسكرية، فهي تحاول تأليب الداخل على «حزب الله» بتهديم كل ما يحلو لها، مرة بحجة مخابئ سلاح، وأخرى بحجة وجود مقاتلين، ووصل بها الأمر إلى أن تدمر مباني بحجة وجود المال. ويسخر الباحث اللبناني في الجامعات الفرنسية ألبير مخيبر، من ذرائع إسرائيل ليقول: «ننتظر أن تبدأ بتدمير المطاعم بزعم وجود الحمص الذي تعده ملكاً لها».
إسرائيل مستمرة، وكذلك الحزب، إلى أن ينهك الطرفان. وفي غزة الأمر نفسه. فالجنرالات الإسرائيليون يصرخون: التجويع ثم التجويع. ومقاتلو «حماس» يهتفون بدورهم: عندنا من السلاح ما يكفي لاستنزافهم طويلاً.
معاركنا مع إسرائيل تتجاوز الأرض والسياسة والقومية. هي أعمق من هذا كله. نحن أمام آلة قتل متوحشة تحركها دوافع وخلفيات، لا تشبه أهل المنطقة لا في الذهنية ولا الروح، ولا حتى في خلجات الضمير.
حربٌ، كل طرف فيها يرى النصر بعين تاريخه وثقافته، وينتظر أن يرفع الآخر راية الاستسلام، ويجثو على ركبتيه. ثمة حقاً، ما يستدعي حلول «الأبوكاليبس».