استغلال الأولمبياد

استغلال الأولمبياد

استغلال الأولمبياد

 عمان اليوم -

استغلال الأولمبياد

بقلم:سوسن الأبطح

حتماً، جاءت النتائج عكسية... ورغم إحساس القيّمين على تنظيم العرض الفني لافتتاح أولمبياد باريس 2024، المثير للجدل، بالزهو والانتصار، فإنَّ هذا الحفلَ تسبب في أذى بالغ، وقدّم خدمة مجّانية لليمين المتطرف والمتشددين في كل مكان، على عكس ما كان يتمناه أصحاب المشروع.

لم يُخفِ المدير الفني توما جولي، أنَّه استفاد من الفرصة التي سنحت له (وهي حتماً ذهبية)، ومن فسحة الحرية التي يمنحه إياها القانون الفرنسي، وهي فضفاضة، ليقدّم «الحب على أنواعه» و«التعددية» التي تعكس قيم مجتمعه. وفي رأيه كما وُجد في العرض بيض وسود، ورجال ونساء، ونحاف وبدينون، كذلك هناك في المجتمع متحولون ومثليون، ويجب أن يكونوا جميعاً حاضرين، كي لا يُستثنى أحد، كنوع من رفض الإقصاء. لكنَّ السيد جولي، الذي نعترف له بعبقريته الإبداعية الاستثنائية، فاته أن المبالغة تجرّ مثيلتها، والاستفزاز أقصر وسيلة لإثارة الرأي ضدك، وتوحيد المختلفين وتجييشهم لمحاربتك.

فاضت كأس مجموعة وازنة من الجمهور بالجرعات المتتالية التي قدمها. ولو أنه اكتفى ببعض التلميحات، لمرّت مخططاته بسلام، لكنه سقط حين استفاد أيضاً، وهو الذي يحب انتهاز الفرص، من واحدة من أشهر اللوحات الفنية، وأكثرها تأثيراً في المسيحيين، وهي «العشاء الأخير»، ليحمّلها رغباته، وتمنياته، والبعض قال إنه سخر، واستهزأ بملايين المسيحيين، حتى قامت الدنيا ولم تقعد.

لم تنفع كل التبريرات بأنَّ القصد هو تمثيل عيد وثني، لإله الخمر الإغريقي ديونيسوس أو باخوس، فما رآه الناس، هو ذاك «العشاء الأخير»، المستوحى من لوحة ليوناردو دافنشي، بتفاصيلها وألوانها، وروحها... وللجمهور الكلمة الفصل.

ومع أنَّ الفرنسيين لا يزالون يركزون على النجاح الباهر الذي حققوه، فإنَّ اللجنة المنظِّمة اضطرت إلى الاعتذار. والمغني فيليب كاترين، الذي رأيناه مطلياً بالأزرق، وشبه عارٍ، طلب السماح، لو تسبب في أذى للمتدينين من دون قصد، لأن الدين المسيحي يقوم على المغفرة. علماً بأنه قبل الاعتراضات، كان يتحدث بفخر عن دوره، معتبراً أننا جئنا عراة وسنذهب كذلك، والعاري مسالم لأنَّه لا يستطيع إخفاء سلاح. وزاد الطين بلّة حين تم إقحام طفل بين المتحولين والمثليين، ليبدو الأمر في غاية الغرابة.

أما منسّقة الموسيقى برباره بوتش، التي كانت تتوسط مشهد اللوحة، وعلى رأسها التاج، ورسمت بيديها القلب، فتشتكي من تلقيها تهديدات معادية للسامية لأنَّها يهودية، وأخرى لأنَّها مثلية، ومن تنمّر بسبب البدانة، لمجرد أنَّها مثَّلت بلادها بتنوعها وفنونها، ولجأت إلى القضاء لمعاقبة من يتجرأ عليها.

فنانو العرض، بسبب مغالاتهم، استثاروا تطرفاً أكبر منه، وفشلوا في أن يوحوا للمتفرجين بالتسامح والتعايش، ولربما أرادوا شيئاً لكنهم حصدوا غيره. فلو راقبتَ ردود الفعل على انقطاع الكهرباء في بعض مناطق باريس، الذي لم يدم سوى بضع دقائق، في اليوم التالي للعرض، لَهالَك كمّ الشماتة التي تعرّض لها الفرنسيون، والكراهية، والتشفي، من أميركيين وإسبان وإيطاليين. وترددت في تعليقات الشامتين، عبارات مثل «صفعة الرب لم تتأخر»، و«التطاول وجد جزاءه»، أو «إنه عقاب السماء».

حتى رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، تدخّل ووصف ما حدث بـ«السخرية المهينة للمسيحيين في كل العالم». ورئيس مسلم مثل التركي إردوغان، هدد بأنه سيتصل بالبابا ليشتكي «من قلة الأخلاق المرتكَبة تجاه العالم المسيحي».

من أجل «نشر التسامح»، وهذا ما قاله الفنانون، فُتح صندوق الكراهية والنقمة على من أراد جولي الدفاع عنهم. أُعطيت له باريس بكنوزها من اللوفر إلى نوتردام، وبرج إيفل ببهائه، وجادّاتها العظيمة، وجسورها الساحرة، ونهرها الدفّاق، مسرحاً بطول ستة كيلومترات من الجمال، ليحلِّق بخياله ويبتكر ما لم تره عين من قبل. وقد فعل، وأذهل وسحر، وركّب «بَزِلاً» حيّاً مثيراً، مستخدماً الأسطح والعمارات وبهاء العمران.

غرقنا في متعة المشاهدة. كثيرون انشغلوا عن النساء الملتحيات، والرجال بالفساتين، لكنّ ثمة من رأى شيئاً آخر، وصوّره، وحلَّله، وشعر بالمهانة.

وهؤلاء هم بيت القصيد. فشرط العروض الفنية الأولمبية أن تراعي مذاق غالبية الناس، وليس أقلية بينهم، وأن تنأى بنفسها عن الآيديولوجيات، والرسائل السياسية. الرياضة تجمع ولا تُفرِّق، ويُفترض أن تبعث المحبة والفرح، لا أن تكون محركاً لبث الضغائن والأحقاد، التي شبعنا منها في يومياتنا الكالحة.

كلام لم يكن له من مبرر لو أن المسألة قد انقضت. لكنَّ السيد جولي نفسه الذي يحب اقتناص المناسبات للترويج لأفكاره، سيكون هو المشرف كذلك على الحفل الختامي، الذي اختار له أن يحلّق في تصور المستقبل. عندها تقول لنفسك: إن كان العرض المستوحى من التاريخ قد أنجب ما رأينا وسمعنا، فما الذي سيأتي به عمل يستقرئ ما لم يأتِ بعد؟

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

استغلال الأولمبياد استغلال الأولمبياد



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab