بقلم - رضوان السيد
كان الحديث مع بعض المهتمين عن إقبال جمهورية أرمينيا على تقديم طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويتضمن ذلك ثلاثة أمور: انفكاك التحالف مع روسيا، وإمكان حصول صدامات من جديد مع أذربيجان إذا انسحبت القوات الروسية – والأمر الثالث المراوحة الأوروبية بين المسرة بالخذلان الروسي، والتردد في تحمل عبء أرمينيا الدولة الفاشلة! واستطرد آخر في الحلقة النقاشية ليشير إلى فشل الأقليات الأربع في إقامة دولٍ وطنيةٍ قوية طوال ما يقارب المائة عام!
الأقليات المقصودة هي المسيحيون في جبل لبنان، واليهود، والأرمن، والأكراد. فقد شغلت هذه الأقليات المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وفي الطليعة البريطانيون والفرنسيون. إذ بحسب أدبيات الدول القومية الأوروبية لا بد أن تكون لكل قومية (أو إثنية؟) دولة. وقد انتشرت وقتها مقولة الرئيس الأميركي وودرو ويلسون: حق تقرير المصير، للأقليات التي كانت تقع تحت وطأة الإمبراطوريات في الشرق الأوسط والبلقان. لقد كان ذلك يعني شرذمةً لا حدود لها من جهة، إنما من جهةٍ أُخرى فإنّ هذه الأقليات/ الشعوب كانت تتعرض لضغوطٍ وآلامٍ ومذابح ووجوه تهجير، وعلى أي حال: أي إطارٍ أو إطارات تضمُّ تلك الأقليات وقد زالت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية الهنغارية؟!
سبق اليهود الأوروبيون الأقليات الأخرى بالحصول على وعدٍ من بريطانيا عام 1917 بوطنٍ قوميٍّ يهودي. وقد قامت الدولة اليهودية أخيراً عام 1948 لكن بعملياتٍ قيصرية متتالية: كان لا بد من الحصول على أرض للوطن القومي – ثم كان لا بد من تكوين القوم أو شعب الوطن بالدفع والجمع في أرض الميعاد وبخاصة بعد الهولوكوست. ثم كان لا بد من تسليح الميعاديين بكل سلاح حتى النووي لتمكينهم من طرد الناس الذين حلوا محلهم، ولتمكينهم من حماية أنفسهم من جيرانهم الذين اعتدوا هم عليهم. وها هي الدولة اليهودية للشعب اليهودي وبعد سبع أو ثماني حروب، تخوض صراع وجودٍ في غزة وفي الضفة وفي القدس من أجل الانفراد بالأرض والسلطة، من طريق ارتكاب المذابح الهائلة، ولا تكاد تتجاوز قطوعاً إلاّ وتنزلق في آخر؛ لأنّ الآخرين أيضاً يمتلكون دعوى الوطن القومي وحقوق تقرير المصير.
وما كان وضع الأرمن أقلّ صعوبة. فهم موزعون بين تركيا وروسيا. وقد ارتُكبت بحقهم مذبحتان في عام 1895 و1915. وكل ذلك بسبب تحركاتهم ذات المطمح القومي وتطلعهم للبريطانيين والفرنسيين لمساعدتهم. بيد أن التهجير من تركيا صار شبه كامل، وأقام السوفيات للأرمن كياناً صغيراً ذا حكمٍ ذاتي، بينما توزع ملايين في أنحاء العالم: بعد سورية ولبنان في مهاجر الأميركتين. وظلّ حلم الوطن القومي حياً في أوساط المهاجرين الذين كانت لبعضهم حظوظ في البروز والثراء. وعندما سقط الاتحاد السوفياتي سنحت الفرصة أخيراً لتطوير منطقة الحكم الذاتي الروسية إلى دولةٍ قوميةٍ مستقلة. وتصارعت النُخَب القادمة من الغرب والأخرى القادمة من سورية ولبنان على السلطة والهوية في الدولة الجديدة. وتنامت طموحات ضم إقليم ناغورنو كاراباخ إلى الدولة القومية، وهو إقليم تابع لأذربيجان وساكنوه من الأرمن، فنجح الأرمن في مطلع التسعينات بدعمٍ من روسيا وإيران في إرغام أذربيجان على التراجع، واستمر الاضطراب إلى أن تمكنت أذربيجان أخيراً بدعمٍ من تركيا وتخلٍّ من روسيا من استعادة الإقليم وطرد أرمن ناغورنو من ديارهم باتجاه أرمينيا المتعبة. وغضبت أرمينيا من روسيا وتحولت باتجاه أوروبا وأميركا... أما الروس فيقولون إنّ الأرمن المهاجرين هم الذين يحكمون أرمينيا: فكيف نحمي الأرمن من أنفُسهم؟!
وبدت الأقلية المارونية في جبل لبنان الأكثر حظاً وسهولةً في إقامة الكيان. فقد احتل الفرنسيون لبنان وأعلنوه دولة مستقلة باسم لبنان الكبير عام 1920. لكنهم لم يكتفوا بجبل لبنان بل ضمّوا إليه المدن الساحلية لتكون له موانئ، والبقاع لكي تكون له أراضٍ زراعية. ولذلك؛ كان لا بد من إشراك مسلمين (سنّة وشيعة) في السلطة إلى جانب مسيحيي ودروز الجبل. وبدأ الاضطراب بشأن الولاء الوطني وبشأن العلاقة مع سورية العروبية. وفي النصف الثاني من الستينات تعددت الانقسامات: شكوى المسلمين من الغبن، ودخول الفلسطينيين لمقاتلة إسرائيل من لبنان. وعندما نشب النزاع الداخلي دخل السوريون لإخماده فاستلموا القرار في الدولة. وعندما خرج السوريون بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري استلم الزمام «حزب الله» الموالي لإيران، والذي ينهمك الآن في الحرب إلى جانب «حماس» في غزة. وما عاد للدولة اللبنانية الوطنية أو القومية أو التعددية شأن ولا قوة ولا قرار!
ولنصل إلى مصائر الأقلية الرابعة التي فكر فيها الذين صنعوا سايكس - بيكو (1916 - 1918). الأقلية المقصودة هي الكردية. وهي موزعة بين تركيا وإيران والعراق وسورية وحتى روسيا. وقد فكر الحلفاء بدولة للأكراد في العراق بعد أن واجهتهم تركيا بالاعتراض المطلق. لكنّ ذلك لم يحدث، وحتى روسيا السوفياتية فكرت لهم بدولة في منطقة نفوذها هي جمهورية مهاباد. وما نفع شيء من ذلك، واستمر نضال الأكراد في العراق وفي تركيا ثم في سورية. ويحتفل الأكراد الآن باتفاقية الحكم الذاتي التي أقاموها مع حكومة «البعث» بالعراق بين 1978 و1982. وفي ذلك تنكُّرٌ لما بلغوه من نفوذٍ وسطوةٍ في العهد الأميركي (2003-2012)، حيث دخل الأميركيون والمعارضون العراقيون إلى مستقر صدام في بغداد عام 2003 من ناحية الكويت ومن ناحية المنطقة الكردية في أربيل. وقام التحالف الشهير بين الأكراد والشيعة والذي تبلور في دستور عام 2005 وهو يعطي الأكراد أكثر بكثير مما أعطاهم اتفاق الحكم الذاتي أيام حكم «البعث» في السبعينات.
لكل إثنيةٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ أو لغوية أو الثلاث معاً وأُقيمت لها دولة أو كيان، مشكلات بعضها خاص وبعضها الآخر مشترك. فالمشترك منها أن المحيط لا يقبلها فيحاول إزالتها أو اقتطاع أجزاء منها. ومع أن كل الكيانات كانت وراءها نضالات من جانب النخب والجمهور؛ فإنّ تلك الأقليات في نهضاتها بدت تابعةً لجهةٍ كبرى أو وسطى إقليمية أو دولية، وبالتالي فقد برزت ضدها دعاوى الخيانة ومكافحة الاستعمار. ومع ازدياد الضعف تبدو تلك الكيانات جزءاً من الصراع الدولي بالمنطقة مثل أرمينيا بين الغرب والشرق، والأكراد بين أميركا وإيران وتركيا، ولبنان بين إيران وأميركا وأوروبا، وإسرائيل الآن بين أميركا والعالم.
بيد أنّ الكيانات (الوطنية) الجديدة للأقليات لا تبدو على مشارف التصدع والسقوط، إلاّ عندما يتفاقم ضمن نخبها الحاكمة انقسامٌ يتجاوز حدود وإمكانيات الاستيعاب مثلما هو حاصل في الكيان الكردي أو الكيان اللبناني أو الكيان الأرمني أو الإسرائيلي أخيراً.
في عام 2010 صدر كتاب ديفيد هيرست: حذارِ الدول الصغيرة. وقد اتخذ من الصراع على لبنان نموذجاً للبلاءَين: الداخلي والخارجي. والذي يبدو لي بعد تأمل كل تلك التجارب المعرّضة للتصدع والفشل، وإذا وضعنا أندرسون ومتخيلاته جانباً – أنّ جوهر المسألة هو في تماسُك النخب التي تُدير التجربة باتجاه المؤسسة فالدولة. فالتماسُك الفكري أو الفعلي إذا استمر لحقبتين أو ثلاث يصنع جمهوراً تصبح إرادته في «العيش معاً» أعلى من الانقسامات واستضعاف الخارج، وبالطبع مع استمرار حضور الليفياثان.