بقلم: رضوان السيد
عندما هاجم الروس أوكرانيا وبدأت الحرب، كنت أدرّس بالجامعة كورساً في المواطنة والسلم. أراد الطلاب معرفة لماذا لا يستطيع مجلس الأمن إيقاف الحرب وحلّ النزاع باعتبار ذلك بين وظائفه، وأردت أن نفكر معاً في قضايا الحرب والسلم بعامة، بدءاً بالمحيط الجيو - سياسي لروسيا وأوكرانيا. والعلاقات الخاصة بينهما؛ فقد كان الروس قديماً يسمّون أوكرانيا روسيا الصغرى. فما بينهما يتجاوز الحدود. ومن جهةٍ أخرى، الحرب شديدة الصعوبة ومكروهة لدى مثيريها وطبعاً لدى ضحاياها. فلماذا الحرب الروسية على أوكرانيا التي لا تبدو ضرورية، وكيف يمكن إيقافها، إنما ما هي دوافعها «الحقيقية» كما قالت إحدى الطالبات؟
بعد الإنسايكلوبديات والكتب المشهورة عن البلدين خطر لي أن أعرض على الطلاب رؤية الحرب من منظورٍ آخر، منظور الروح الروسية إذا صحَّ التعبير. جلبت إلى الصف في الدرس الثاني روايتَي «الحرب والسلام» لتولستوي، و«الإخوة كارامازوف» لديستويفسكي. الأول كتب عن الحرب في الرؤية الروسية، والآخر كتب عن صراع الإخوة وعلاقته بالضمير والأخلاق. هل فهم الطلبة النزاع بطريقةٍ أفضل؟ لا أعرف، لكنهم كانوا مسرورين بالمقاربة الجديدة بدلاً من التعداد الممل لمواد وصلاحيات مجلس الأمن في صون الأمن الدولي غير المصون!
مع هجوم «طوفان الأقصى»، احتاج الأمر إلى نقاشٍ آخر وبيئاتٍ أخرى. فالقضية الفلسطينية بالنسبة للجمهور العربي لا تزال قضية هويةٍ وانتماءٍ ووجود. وقد بلغ من «اشتراكاتها» أنها صارت مؤثرة في علاقاتنا بأميركا وإيران وتركيا، وصارت إيران تقرر من طريق الميليشيات متى تكون الحرب من لبنان أو سورية أو غزة. وكل ذلك لتعذر متابعة العملية السلمية، والسبب إسرائيلي بالدرجة الأولى، لكنّ الأطراف الأخرى مسؤولة بمقادير مختلفة.
كانت لدى الكثيرين منا أسئلةٌ غاضبة: لماذا استهداف الأقصى دائماً، ولماذا لا يتعلم الطرفان من دروس الحروب فيكررانها، ولماذا يبقى الاحتلال في فلسطين من دون بقية مناطق العالم؟ وأليس هناك وسيط غير الولايات المتحدة ما دامت وساطتها قد فشلت مرات عدة، وآلت إلى أن تكون مع إسرائيل في كل ما تقوم به؟ الطريف أن أحداً من المتسائلين ما خطر له أن تؤدي الحرب هذه المرة إلى مفاوضاتٍ سلام من جديد. وقد اعتقدت أنّ لذلك علاقةً بالسؤال الثاني حول «دروس الحروب». وسرّتني الروح العملية لدى المتسائلين بدلاً من لغة الحق والباطل. ما استفادت الأطراف بعد ياسر عرفات وإسحق رابين من دروس الحروب المتوالية. والإسرائيليون لأنهم يؤمنون بإمكان الانتصار الكامل، والفلسطينيون المقاتلون لأنهم يشعرون بالظلم الشديد والغضب الشديد، فضلاً عن منافسة أبو مازن وإمكان الوصول إلى سلام مؤقت مع إسرائيل إذا استطاعوا إنزال أضرار كبيرة بالجيش الإسرائيلي. والذي أراه أخيراً أن الطرفين سيقبلان هذه المرة بعد وقف القتال بمسألة التفاوض. يكون الحماسيون قد حققوا انتصاراً بالصدمة وبتحرير الأسرى، وإن جرى التفاوض مع غيرهم. ثم إنّ «حماس» تكون قد ضعفت وتحملت مع إسرائيل المغيرة أعباء آلاف الضحايا من الطرفين. حتى الرئيس بادين صار مع بلينكن يتحدثان عن دولة للفلسطينيين. فللمرة الأولى قد تكون هناك نافذة للسلام بعد وقف النار. لكنّ الملدوغين لا يسلّمون بسهولةٍ بالتغيير وقالوا إن بوش الابن وأوباما أيضاً تحدّثا عن السلام وعيّنا مندوبين ثم تراجعت الجهود بسبب إصرار نتنياهو أنه لا مقابل لسلام غير السلام! بايدن يريد الإفادة الآن من حرص العرب على وقف النار وإدخال المساعدات. ولذلك يعطي آمالاً عذاباً بعد شراسته في نصرة إسرائيل. وقلت: لكنه لا يحتاج من أجل النصرة وإظهار التأييد المجيء إلى إسرائيل، وإنما أظن أنه يأتي من أجل المساعدات والأميركيين لإخراجهم من غزة، ولأنه يريد من العرب الكثير فإنه يمكن بمناسبة حملته الانتخابية أن يضيف إلى سجلّه تجديد التفاوض إن استطاع إقناع نتنياهو واليمين، وهو على أي حال أمر من الصعوبة بمكان!
أكثر من نصف وقائع الحرب الروسية - الأوكرانية مستور أو مغطى، بينما حرب «طوفان الأقصى» كلها مكشوفة. فحتى المغيرين من غزة كانوا حريصين على تصوير ما يقومون به، وليس كل ما قاموا به مجيداً أو رائعاً.
أحد الزملاء أثار مسألة علاقة السلام بالعدالة، وهما القيمتان البارزتان في العلاقات الدولية. لدى الطرف الضعيف أو الشاعر بالظلم تتقدم اعتبارات العدالة وضروراتها. أما الحقيقة، فهي أنّ وقف القتال هو الخطوة الأولى لإتاحة الحديث في كل شيء ومن ذلك العدالة. بيد أنّ الزميل أشار إلى أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، فهناك الآن قضية الأجانب في غزة، وقضية الرهائن، وقضية إعادة الغزاويين إلى مساكنهم والإسراع في إعادة الإعمار. قد لا تنتهي الحرب بأقل من ثمانية آلاف قتيل، ولدى الإسرائيليين ألفان، وهكذا سيضيع عامٌ قبل الوصول إلى العدالة التي تعني الدولة وتعني التعويض على الفلسطينيين، وتعني - وهذا تحدٍ عربي - تجديد القيادة الفلسطينية وتجديد «وحدة» الفلسطينيين. بالطبع هذه كلها عقبات، لكنّ ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جُلُّه. وإذا تشكل فريقٌ عاقلٌ وعاملٌ من العرب والفلسطينيين والأميركيين والإسرائيليين أو أُحييت اللجنة الرباعية فإنّ ذلك يكون أمراً جيداً.
ويركز الأميركيون والأوروبيون على الدور الإيراني في إيقاد الحرب وفي منع عملية السلام. وقد ساهمت إيران في الإعداد والإيقاد، أما عائق السلام الرئيسي فهو لدى نتنياهو وحكومته أو حكوماته وليس لدى إيران. لكنّ إيران لا تريد السلام بالفعل بالشروط العربية التي تعتبرها غير كافية وغير عادلة. وهي تملك الآن أوراقاً قوية من خلال «حماس» و«حزب الله». إنما إذا انفتح الأفق حقاً على السلام، فيستطيع العرب استيعاب «حماس» وحتى الحديث مع إيران وحلفائها بشأن المصالح الكبرى والحقيقية في دخول المنطقة في حالة السلام من دون حصاراتٍ ولا مقاطعات!
هل لهذه «المعارف» قيمة أو أنها مؤثرة. المطلوب القيمة المعرفية والاستراتيجية، وهذا ما يحرص عليه الجميع. أما التأثير فدونه عقباتٌ لا تُحصى. لكنّ العرب يستطيعون الآن استعادته لحاجة الجميع إليهم، ولأنهم يريدون وقف القتل. هم يريدون وقف القتال في أوكرانيا فكيف بفلسطين.
ليس كل الذين يعرفون يريدون السلام، إما بسبب التعصب أو لاعتقاد تناقض المصالح. لكننا نحن العرب وبيننا الفلسطينيون أصحاب مصلحةٍ كبرى في السلام، وهذه فرصة أنتجتها مصيبة الخسائر الإنسانية الهائلة. فلتكن المعرفة هذه المرة محرِّرة من الأوهام، وقادرة على التأثير.