بقلم - رضوان السيد
أصبح الحديث في القوة الناعمة الأميركية وقدرتها على النجاح في السياسات الدولية، من العناوين المثيرة للسخرية. لقد اقترح هذا العنوان جوزيف ناي الذي كان مساعداً لوزير الدفاع أيام الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. وربما كان الكتاب الصادر عام 1990 من أسباب تعيينه بهدف الائتناس به حتى في السياسات الدفاعية. أما في عام 1990 تاريخ الظهور فقد كان القصد أنه مع انهيار الاتحاد السوفياتي والذي يدل على نجاحٍ كبيرٍ للسياسة الأميركية لا بد من تفهم وضع روسيا الجديدة حتى لا تعود أدراجها إلى زمن الستار الحديدي. وما جرى هو اتباع هذه السياسة المقترحة بدليل الحرب على العراق، والتي حاول الأميركيون الإسكات عنها بالدخول في اتفاقية أوسلو والتفاوض على السلام في مدريد. ثم إنّ القوة الناعمة لم تستطع الصمود في وجه هجوم «القاعدة» عام 2001 على أميركا. وجاءت حربا أفغانستان والعراق مثلين على استخدام القوة الخشنة كما يقال. وإذا كانت القوة الناعمة تحتمل عدة مخارج أو سياسات فإن القوة الخشنة لا تمتلك في الغالب غير مخرجٍ أو مخرجين: إما المقاطعة والحصار وإما الحرب!
يصعب عدّ سقوط الاتحاد السوفياتي شاهداً على نجاح القوة الأميركية الناعمة، لكنّ كثيرين عدّوه كذلك، ومضوا إلى ما وراءه أو فوقه عندما صار تصدع الاتحاد السوفياتي دليلاً على تفوق الحضارة الغربية اليهودية - المسيحية، وأنها هي مستقبل العالم المتحضر الذي لا يقف في وجهه غير المسلمين. لكنّ المهمّ ليس هنا - رغم أنه ترتبت عليه سياسات ضخمة - بل المهمّ أنّ الحرْبين فشلتا في تحقيق أهدافهما، وتسببتا في خسائر هائلة إنسانية وعمرانية، وصدّعتا سمعة الولايات المتحدة في العالم.
في عام 2004 عاد جوزيف ناي وبعد حربي أفغانستان والعراق لإصدار تتمة للقوة الناعمة، وهو على طريقة الأمل الذي لا شفاء منه، كان لا يزال آملاً في أن تنجح الدولة الأميركية في إنشاء أنظمة ديمقراطية في أفغانستان والعراق! وفي الواقع ما نجح المشروعان الأميركيان في أفغانستان والعراق، وما كان يمكن أن ينجحا. لقد تنبأ بذلك أمامي برنارد لويس في أطروحةٍ طريفةٍ عام 2008، وكان مدعواً للمحاضرة بعُمان وهناك تحدثت إليه. قال إنّ الأميركيين سيفشلون، والمعروف أنهم مستعمرون سيئون لأنهم يأتون بدعوى تحرير وديمقراطية رغم أنهم غزاة، ولذلك يخرجون فاشلين بعد حماسة لا يتجاوز ذلك السنتين أو الثلاث!
بعد هذا كله، هل يمكن الحديث عن جاذبية القوة الأميركية الناعمة؟ في الواقع بعد عام 2001 صارت أميركا تتدخل بالقوة الخشنة في كل مكان. وفي البيئات العربية والإسلامية تستثار الجهات الأصولية بالداخل وتنشب حروبٌ مع الأميركيين ومع الجهات الأخرى بالداخل. وفي العراق وسوريا دخل الإيرانيون على الخط والأتراك، وصارت الحروب دولية وفيها الأميركيون والروس أيضاً، وبالطبع وسط هذه الظروف لا يمكن الحديث عن نجاحٍ للقوة الناعمة أو الخشنة. أما الأفغان وبعد طول تفاوض فقد أخرجوا الأميركيين بالقوة. وأما الحكومة العراقية فتفاوض على إجلاء الأميركيين وتريد بقاءهم في السر. وفي سوريا فاللعبة شديدة التعقيد فقد جاء الأميركيون لمكافحة الإرهاب، وهم يكتفون الآن بحماية الأكراد ويتصدون للدواعش من حينٍ لآخر. لا رغبة لأحدٍ في التصريح بالتحالف مع أميركا، ولا أحد يثق بالولايات المتحدة على أي حال، لأنّ سياساتها شديدة التغيير، فحتى القوات العسكرية سرعان ما تنسحب، والصفقات معها لا تجري داخلياً، بل على المستوى الإقليمي أو الدولي.
في عام 2021 أصدرت مجموعةٌ من أساتذة العلوم السياسية الأميركيين دراسات عن مصائر القوة الناعمة، شارك فيها جوزيف ناي أيضاً. لكنها جاءت هذه المرة متشائمة إن لم نقل إنها يائسة تماماً. فهم قوة عظمى بكل المعاني الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتكنولوجية، لكنهم فاشلون وليسوا جذابين أو لم يعودوا جذابين، ولا يهابهم أحد حتى عندما يستخدمون قوتهم العسكرية المتفوقة! ولذلك يستحق أمر «عالم ما بعد أميركا» البحث والتأمل، لأنه عندما يفشل النظام (العالمي) فلا بد من البحث عن نظامٍ آخر رغم خشية الوقوع في الفوضى واللانظام.
فلنصِرْ إلى نموذج أميركي جديد من الازدواج بين القوة الناعمة والأخرى الخشنة. ففي حرب إسرائيل على غزة استخدمت أميركا القوة الخشنة في مكافحة خصوم إسرائيل من «حزب الله» وإيران وإلى الحوثيين، إضافةً إلى تزويد إسرائيل بالسلاح المتفوق ومليارات الدولارات. وجرّبت القوة الناعمة هذه المرة مع الفلسطينيين بإغراء وقف الحرب على غزة والضفة، والمساعدات، والميناء، وحلّ الدولتين. ويقول بعض المحللين الأميركيين إنّ المساعدات العسكرية لإسرائيل كانت بقصد استعادة الهيبة لكي تدخل في التفاوض على السلام. ثم لإسقاط أطماع الذين يظنون أنهم يستطيعون هزيمة إسرائيل. لكن مرةً أخرى فإنّ أحداً لا يهاب القوة العسكرية الأميركية لا إيران ولا حتى الحوثيين. كما أنّ أحداً لا يصدق وعود القوة الناعمة الأميركية. بيد أنّ العالم كلَّه ينظر الآن ماذا تستطيع أميركا أن تفعل وماذا لا تستطيع. ورغم أن الصينيين والروس يريدون وقف الحرب، فإنهم ينظرون شامتين أيضاً إلى ما لا تستطيع الولايات المتحدة القيام به لا تجاه إسرائيل ولا تجاه الحوثيين!
قبل شهر طلب عسكريو النيجر من الولايات المتحدة أن يغادر عسكرها القاعدة التي أنشأها الأميركيون لمكافحة الإرهاب. وقبل أسبوع قيل إنّ عسكراً روساً دخلوا إلى القاعدة قبل أن ينسحب منها الأميركيون، وبين العسكرين سور ربما لمنع الأميركيين من تدمير القاعدة عند الانسحاب. والذي حدث للأميركيين في النيجر حدث معهم ومع الفرنسيين في أربع دولٍ أفريقية أخرى حدثت فيها انقلابات أنهت علائقها بفرنسا ثم بالأميركيين. والمفهوم أن النيجر تملك ثروات من اليورانيوم كان الفرنسيون يستغلونها، والآن تنتقل لعهدة الروس كما حصل من قبل مع الروس و«قوات الدعم السريع» في السودان!
لا شكّ في تراجع الهيبة الأميركية. لكنّ عالم أميركا في أوروبا وأميركا الوسطى والجنوبية والمحيط الهادي وبحر الصين لم ينتهِ بالطبع. إنما في تلك النواحي، حيث تحضر الصين يصعب تصور الصدام. لكن لماذا هذا التهافت في الهيبة وفي الجاذبية أو القوة الناعمة ولعقدين أو أكثر؟ يعيد البعض ذلك إلى الانقسام الداخلي الحادّ، أو إلى «تعب المعادن»، أو لأن حلفاء أميركا ما عادوا يستطيعون الصدام. لكن في جميع الأحوال تبقى إسرائيل هي التحدي الحاضر، فإذا تابعت الحرب، فالمنتظر أن تتأثر سمعة أميركا مع حلفائها العرب، وسواء غزا الإسرائيليون غزة أو لم يفعلوا.