التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة

التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة

التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة

 عمان اليوم -

التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة

رضوان السيد
بقلم : رضوان السيد

شاع في دراسات ما عُرف بعصر النهضة أنّ الاهتمام الأول كان بالإصلاح السياسي وببناء مؤسسات الدولة الحديثة، ومن ضمنها الدستور. لكنّ الملف القيمي والأخلاقي ما كان بمنأى عن الاهتمام؛ أولاً لجهة التربية الوطنية، وثانياً لجهة الاهتمام بالتعليم بوصفه أساس النهوض. وفي كتابات النهضويين مثل محمد حسين المرصفي ورفيق العظم ثم محمد عبده وقاسم أمين، صارت أخلاق المدنية بين لوازم نهوض الأُمم. ووقتها بدأ كثيرون يترجمون كتب غوستان لوبون عن طبائع الأُمم، وكتب محمد عبده مقدمته للتفسير الذي سُمّي «تفسير المنار» في ما بعد، بسبب نشر دروس محمد عبده التفسيرية في مجلة «المنار»، وكان للأخلاق حظٌّ وافرٌ فيها. وتأثر هذا الملف بعض الشيء بسبب الجدال بين محمد عبده وفرح أنطون، وهو جدالٌ تطور في الجيل اللاحق للحرب الأولى إلى مماحكاتٍ مع الاستشراق والتبشير. ثم تغيرت الأجواء الثقافية والسياسية العالمية للمرة الثالثة بعد الحرب الثانية عندما ظهر ميثاق الأمم المتحدة (1945)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). تجادل القوميون والإسلاميون مع الميثاق والإعلان من منطلقين، الأول منطق الميثاق والإعلان أنّ حقوق الإنسان والمواطن هي حقوقٌ طبيعية؛ بينما في الإسلام والموروث أنها هبةٌ من الله. والآخر أنّ الميثاق والإعلان يكيلان بمكيالين فلا يحدث إنصافٌ في قضية فلسطين، ولا في التعامل مع الدول العربية والإسلامية التي تصارع الاستعمار وتناضل للتحرر منه! وعندما جادلَ أنصار الميثاق والإعلان أنّ الفطرة تعني ما يعنيه الحق الطبيعي، أجاب خصومهما بتفاصيل تستند إلى فكرة الأصالة التي بدأت تتعملق في ردّ ظواهر الحداثة واستعاراتها. ثم جاء مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) الذي اعترف بإبراهيمية الإسلام، فاتجه الحوار المطلوب لاستكشاف القواسم المشتركة، ومنها العقدي والأخلاقي.

في العقود الأربعة الأخيرة جادلْنا بالدواخل العربية والإسلامية أنّ رؤية القرآن لحوار التفاهم والتضامُن أصلها مطلب القرآن أن تقوم العلاقات بين بني البشر على اختلاف أعراقهم وأديانهم على التعارف، وله مقصدان: معرفة الفرد للآخرين من حيث المصالح والاهتمامات لتنتفي الخصومة بالمعرفة؛ لأنّ الإنسان عدوّ ما جهل - والمقصد الآخر استكشاف القواسم المشتركة من طريق التواصل والحوار من أجل التعاون والتضامن في المشتركات. والقرآن يطلب من المؤمنين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر في الأخلاق والتعامل. والمعروف هو ما تعارف البشر على صلاحه وإصلاحه، والمنكر هو ما تعارف البشر على إنكاره والابتعاد عنه. وها هو في الجانبين المشترك الإنساني في القيم والأخلاق وتبادُل الاعتراف من طريق العقول والمصالح بالفضائل والرذائل، بحيث تكون السيرة والسياسة التعاملية الإنسانية أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يأتِ بها الوحي أو الشرع، كما يقول ابن عقيل وابن قيّم الجوزية. وحول هذه المفاهيم كان يدور الجدال في المجال الإسلامي؛ لأنّ المحافظين والمتشددين كانوا يقولون إنّ المعروف هو ما أمر به الشارع، والمنكر هو ما أنكره الشارع. فلمّا نشب الصراع في المدى العالمي بسبب الأعمال الإرهابية، وتعاظمت الحاجة إلى الحوار مع الأديان والثقافات لاستعادة السلم مع العالم، خمدت أصوات الانعزال والقطيعة، وصارت المرجعيات الدينية إلى الاحتجاج بحديث السفينة الواحدة رمزاً لوحدة بني الإنسان في المقاربة الأخلاقية للمشكلات العالمية والتذكير بحلف الفضول أو الفضائل في مكة قبل الإسلام، حين تعاقدت بطونٌ من قريش على نُصرة المظلوم، وحماية أعراف الجوار والضيافة لزوار البيت الحرام، وهو العهد الذي حضره رسول الله (ص) شاباً، وأشاد به وأقرّه بعد البعثة النبوية، وهو الذي عدّ بعثته رسالةً أخلاقية عندما قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومضياً مع هذا التنوير الأخلاقي وُقّعت «وثيقة الأخوة الإنسانية» بين البابا وشيخ الأزهر، ووثيقة مكة المكرمة للمواطنة الشاملة (2019).

إنّ هذا الإجماع على التعاون من ضمن المشترك الإنساني، والذي ما بلغته الإنسانية إلاّ بشق الأنفس، وصار رمزاه ميثاق الأُمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأ يتعرض للتصدُّع لأسبابٍ وجهات عدة. الأول عجز مجلس الأمن عن صون السلم العالمي، وانتشار الحروب وتعاظمها بين الدول الكبرى الداخلة في مجلس الأمن، وبين الدول الوسطى والصغرى وفي دواخلها. والثاني: عجز مفوضيات الأمم المتحدة ووكالاتها عن حماية البشرية من المجاعات والأوبئة وفساد البيئة واضطرابات المناخ بسبب أعمال التخريب الهائلة. والعامل الثالث: المتغيرات القيمية والأخلاقية الكبيرة بسبب التقنيات الجديدة، والتي تنفي وجودَ طبيعةٍ إنسانيةٍ تتضمن الذكورة والأنوثة من أجل استمرار الحياة الإنسانية من خلال علائق المودة والعيش المشترك في الأُسَر والعائلات - والذهاب إلى أنها تاريخٌ وثقافة وعادات ذكورية مصطنعة! والإمعان في العبث وصولاً إلى الطفولة، التي يُرادُ تدمير الأُسرة من خلال «قراراتها الحرة»، باعتبار العائلة، كما سبق القول: مجرد موروثٍ يُنافي الحرية!

عام 2019 أصدر الفاتيكان وثيقةً بعنوان: «الذكر والأُنثى خلقهما الله. نحو سبيلٍ للحوار في إشكاليات نظرية الجندر في التربية». تدرس الوثيقة تأثير وسائل التواصل المغوية على صغار السن والمراهقين في الاستعمال الخاص، وفي المدارس من خلال التعليم، والتحول التدريجي للبدائع المتزايدة إلى قوانين همُّها تفكيك الأُسَر بحجة الحرية للصغار، وتسهيل مسائل تغيير الجنس بقوة القانون!

تقول الوثيقة إنّ النسْوية feminism كانت تُناضلُ من أجل المساواة والعدالة بين الجنسين باعتبار أنّ الطبيعة الإنسانية واحدة، وينبغي أن يكون المترتب على ذلك في الحياة الإنسانية منصفاً وعادلاً. أما نظرية الجندر (النوع) أو رؤاه فإنها تُلغي اعتبارات الطبيعة، التي تعدّها مصطنعة، وتُطلقُ العنان للتلاعُب بالجسد وبالعقول قبل الجسد. وتستغرب الوثيقة هذه الدعوى الجارفة التي تعبث بالعائلة وهي أساسٌ في إنسانية الإنسان، فتصبح حتى الولادة صناعية ولا تحتاج إلى الزوجين أو الأُسرة وحياة العائلة والتربية والتعليم.

بعد منتصف القرن العشرين، كان الهمُّ والعملُ لدى تنويريي المسلمين على مفهوم المعروف العالمي، وعلى التعارُف والاعتراف بين بني الإنسان، وإقرار التعدديات والخصوصيات الدينية والإثنية من ضمن المشترك الإنساني الذي يقول بالحقّ في الاختلاف من ضمن التنوع في الوحدة. والميول الجديدة توصل إلى التذرُّر لا إلى التعدد. التعدد مفهوم اجتماعياً وسياسياً، لكنه لا يعود مفهوماً عندما يتجاوز إنسانية الإنسان صائراً خارج كلّ عقلٍ ومنطق.

كان الأستاذ هانس كينغ يريد أن تتوصل الأديان إلى التوافق على أخلاقٍ عالمية. لكنّ الديانات ما عادت هي التي تحدد - إذا توافقت - الأخلاق العالمية. فيبقى السؤال: ما هو المعروف أو الفعل الفاضل، وعلى ماذا يحصل التعارف؟

omantoday

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

هوامش قمة البحرين

GMT 08:30 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 08:29 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 08:28 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة التعارف والمعروف وتحديات الأزمنة الجديدة



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 20:10 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية
 عمان اليوم - دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 20:07 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F
 عمان اليوم - علاج جيني مُبتكر يعيد السمع والرؤية لمرضى متلازمة آشر 1F

GMT 14:38 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab