بقلم: جميل مطر
بعد مرور نحو ثلاثة أعوام على رحلتنا الآسيوية اتصل بى الأستاذ هيكل من مزرعته فى برقاش يسألنى إن كان لدى من المشاغل ما يمنعنى من استئذان الإدارة فى الأهرام للحصول على إجازة بدون مرتب لمدة ثلاثة أشهر أصحبه فيها فى رحلة نزور خلالها نحو عشرين دولة عربية. كان قد مضى على مغادرته الأهرام أقل من عامين. وافقت على الفور واثقا من أننى لن أقابل أى مشكلة إذا أنا تقدمت للأهرام بطلب إجازة. كنا وقتها فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية تحت ضغط شديد من الإدارة الجديدة فى الأهرام لتجميد جميع أنشطتنا، وفى رأى الصديق الأستاذ أحمد بهاء الدين كان الهدف تصفية المركز بناء على توجيهات الرئيس السادات الذى كشف له عن اعتقاده أن هذا المركز كان وراء بعض المواقف والسياسات المعارضة لسياساته.
على كل حال وافقت الإدارة على الإجازة وبدأنا على الفور، هيكل وأنا، الإعداد للرحلة. كررنا ما سبق أن فعلنا عند الإعداد للرحلة الآسيوية. شمل الإعداد توفير الكتب والمراجع الأهم والاستماع مطولا إلى الخبراء فى الشئون العربية بين قادة التحرير فى الأهرام وخارجه، والاتصال بالسفارات العربية لطلب تحضير ظروف الاستقبال وتحديد مواعيد المقابلات مع رئيس الدولة وكبار المسئولين، شمل أيضا الاتفاق مع شركة سياحية لتتولى مسئولية حجز الفنادق وتأجير السيارات. أذكر أنه عند الإعداد للرحلتين كان هيكل حريصا على تأكيد أن الأهرام فى الرحلة الآسيوية وهيكل شخصيا فى الرحلة العربية يتحملان جميع تكاليف الإقامة والتنقلات ولا تتحملها الدول المضيفة. أكتفى هنا وبهذه المناسبة، أقصد مئوية هيكل، بوقفات سريعة على تفاصيل متناثرة لصحبة نادرا ما تتكرر.
• • •
أعود قليلا إلى الرحلة الآسيوية. أقصد رحلة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بقيادة هيكل رئيس المركز لآسيا. كانت رحلة الأربعين ساعة من القاهرة إلى شنغهاى فرصة لنا نحن رفاق الرحلة لاختبار شائعات وحكايات وما اجتهدنا فى حبكه من ظنون وتهيؤات يكون هيكل طرفا فيها. تبادلنا خلال الرحلة الجلوس فى المقعد الخالى بجانبه. تراوحت أسئلتى بين البسيط جدا مثل السؤال عما إذا كان هو الذى طلب أن يبقى المقعد المجاور له خاليا وبين الأسئلة المعقدة من نوع الاستفسار عن طبيعة العلاقة التى ربطت بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. أذكر أنه أجاب على السؤال البسيط بأنه يعتقد أن المقعد الخالى لفتة كريمة من شركة إير فرانس للأهرام أو لمركز الدراسات وليس لشخصه. على كل حال أثبتت اللفتة ضرورتها وأهميتها له، إذ لم ينقطع حبل العمل مع الفريق المصاحب له. أما الأسئلة الأعمق، وما أكثرها، فقد استمرت بيننا على امتداد الخمسين عاما التالية لرحلتنا إلى آسيا. أذكر بالمناسبة أنه كان حريصا على تكرار نصيحته لنا وبخاصة لمحمد سيد أحمد، هذا الإنسان الرائع وعضو الفريق، أن لا نقاطع المتحدثين الأجانب، أظن أننا باستثناء العزيز محمد التزمنا، خاصة عندما كان المتحدث شو إين لاى. أنا شخصيا وجدت العذر لمحمد لأن أحدا منا ما كان يستطيع أن يجادل السيد شو فى أسس العقيدة إلا من كان على نفس المستوى. ومحمد كان على هذا المستوى. كان وجوده مدعاة لفخرنا.
• • •
لقاؤنا الأول فى الرحلة العربية كان مع العقيد القذافى وجرى فى القاهرة، باعتبارها مقرا ثانيا له ومقرا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الذى كان يخصص له النصيب الأهم من وقت رحلاته إلى مصر. هذا اللقاء تضمن الكثير والمثير عن ليبيا وعلاقاتها الخارجية وكيانها الداخلى.
• • •
أما اللقاء الثانى فى الرحلة العربية فكان مع الرئيس الحبيب بورقيبة. خرجت من هذا اللقاء بانطباع تأكد مرة ثم مرات خلال سنوات إقامتى فى تونس فى النصف الأول من عقد الثمانينيات. أما الانطباع فهو أن هذا الرجل، وهو ربما ليس الوحيد فى عالمنا العربى، يحب مصر ويحسدها فى آن واحدة. قضينا أكثر من ساعتين مع زعيم فريد فى صفات عديدة. يلفت نظر الزائر المصرى لشارع الحبيب بورقيبة بوسط تونس العاصمة تمثال طبق الأصل لتمثال آخر مقام فى ميدان الأوبرا بوسط مدينة القاهرة باستثناء أن الفارس الممتطى التمثال فى تونس هو الحبيب بورقيبة وليس إبراهيم باشا. هذا الزائر المصرى إذا قدر له أن يزور مكتب رئيس الدولة التونسية بقصر قرطاج خارج العاصمة، وقد زرته مرات، فسوف يقابله داخل المكتب نسخ مختلفة الأحجام من التمثال نفسه فضلا عن نموذج صغير جدا فوق المكتب. النموذج الأصلى أى فى حجمه العادى نراه منتصبا فى كل مدن تونس. بمعنى آخر بورقيبة موجود دائما لشعب تونس وفى كل مكان. وهو أيضا موجود فى كل بيت. كانت له حصة فى التليفزيون التونسى كل مساء مدتها خمس دقائق. يتحدث الزعيم لشعبه وبخاصة للشباب عن كل شىء وأى شىء. سمعته يحكى عن شبابه الذى قضاه فى فرنسا ويتمنى أن يعتبره الشبان نموذجا يحاكون كما سمعت تسجيلا له ينقل فيه للمشاهدين تفاصيل شجار نشب بينه وزوجته السيدة وسيلة.
خلال الرحلة من هيلتون تونس إلى القصر فى قرطاج أسر هيكل بصوت أقرب إلى الهمس بما معناه ألا أهتم بتحضير أسئلة فالرئيس لن يدعنا نسأل. وبالفعل بدأت المقابلة كما انتهت بحديث مطول جدا عن نفسه. تكلم بألم ظاهر، وهو الألم نفسه الذى تكلم به كلما قرر أن يحكى أمامى كضيف من مصر حكايته مع الجندى المصرى حارس حدود مصر الغربية عند السلوم يوم وصول بورقيبة من تونس طالبا اللجوء فى مصر. مصدر ألمه أن الجندى المصرى لم يتعرف عليه رغم أنه كرر عليه «أنا سى لحبيب المجاهد الأكبر». وبالفعل لم يدخل الأراضى المصرية إلا بعد أن جرى الاتصال بوزير الداخلية.
يظهر لنا الرئيس بورقيبة كالحالم ببراءة الأطفال عندما ينتقل إلى موضوع الكازينو الذى كان يجلس فيه كل صباح فى موقع يطل على ميدان الأوبرا كاملا وفى وسطه تمثال إبراهيم باشا ممتطيا الحصان. وفى لمح البصر يظهر لنا كالغاضب بعنف الوحش الجريح عندما يفرغ كأس غضبه على جمال عبدالناصر، ومتهما هيكل بأنه مخدوع فى عبدالناصر. وفى اللحظة التالية مباشرة تنفرج أساريره، حينها يكون قد عقد العزم على أن يحكى لنا، ولضيوفه فى مناسبة أخرى، كيف أنه دعا عبدالناصر لمقابلة جموع الشعب التونسى، وعندما وصل اصطحبه إلى ميناء بنزرت فى أقصى الشمال وطلب منه أن يلقى «إحدى خطبه المعهودة» أمام الجمهور المحتشد. يقسم بورقيبة أمامنا أن الناس هللت لكلمته أكثر مما احتفت بخطاب عبدالناصر. لم يهدأ الرئيس المضيف إلا عندما أبلغنا أنه التفت إلى الرئيس المصرى مباهيا بشعبه «الذى لا يحب ولن يحب زعيما آخر».
• • •
زرنا الخليج باستثناء المملكة السعودية. لم تكن الزيادة فى عوائد النفط قد وصلت إلى الشارع الخليجى. كنا هناك لنرى أميرا ناجحا بكل مقاييس ذلك الزمن يحسب بنفسه الضريبة المستحقة على كل سفينة تمخر أمامه متوجهة نحو الميناء. يحسبها على أساس عمق غاطسها. رأينا شوارع غير ممهدة وسمعنا من مواطن أن لدى أمير البلاد مفتاحا لدكانه يزوره فى الفجر ليقدر بنفسه حجم أعماله. زرنا قصر مسئول كبير من أصول غير عربية. استخدم هيكل معه أسلوبه فى توجيه الأسئلة المباشرة. شربنا القهوة وما أن غادر الخادم الهندى الغرفة إلا وسأل هيكل رب القصر «طيب يا فندم كم تبلغ ثروتك؟» جاءت الإجابة بسرعة «حقيقة لا أعرف بالدقة، فالثروة تزيد وتنقص حسب تقلبات أسعار البورصة فى طوكيو وفى لندن وفى نيويورك». عاد هيكل فسأله «سمعنا عن هوايتك جمع القطع النادرة من السجاد وأنك أفردت لها قصرا خارج لندن، هل يمكن أن تخبرنا عن عدد ما جمعت وكم تساوى». أجاب بما معناه «صدقنى يا أستاذ إن قلت إننى لا أعرف. لكن يمكنك أن تقدر الإجابة عن سؤالك إذا عرفت أن صيانة هذا السجاد ضد الحشرات تكلفنى سنويا نحو أربعين ألف إسترلينى».
• • •
تعلمت الكثير من الأستاذ الجورنالجى. الآن أستطيع أن أزعم أن عندى حكاية عن الصحافة تستحق أن تحكى.