بقلم: جميل مطر
لكل إنسان هفوة. هفوتى مثل معظم الهفوات وقعت فى مرحلة شبابى. كنا مجموعة من شباب اختارت ذات أمسية أن تقضيها فى ممارسة نشاط برىء. اتفقنا تحت إلحاح عضو فى المجموعة أن نذهب إلى صالة شهيرة بمستوى اجتماعى رفيع يتنافس فيها الشباب للفوز بأعلى درجات اللياقة فى لعبة «البولينج».
كنت جديدا على هذه الصالات وبخاصة المتخصصة فى هذه اللعبة. تطوعت عضوة فى المجموعة للقيام بمهمة تعريفى باللعبة وقوانينها. كرات متراوحة الوزن الثقيل، تمسك الواحدة منها بأصابع قوية متوغلة فى ثقوب غائرة وتقذفها بذكاء وحنكة نحو هدف ثابت. الهدف عبارة عن زجاجات خشبية أو ربما بلاستيكية متراصة تنتظر عند نهاية قناة طويلة الكرة القادمة نحوها مندفعة فى انضباط وتصميم. الكرة لا تحيد عن الطريق المستقيم، أما إن حادت أو انحرفت فمصيرها السقوط فى المجرى الفرعى إعلانا عن سقوط العضو المتبارى وخروجه من الجولة. أما الزجاجات فمصيرها انتظار كرات غيره من اللاعبين وبخاصة هؤلاء الذين تدربت أصابعهم وأذرعتهم ومراكز الإدراك لديهم على ثبات اليد وحسن التوجيه وقوة التركيز.
أما المستجد وقليل التدريب والمتعجل الفوز فمصير كراته الانحراف بجلبة والسقوط المدوى فى أحد المجريين على جانبى الطريق، هذا عن مصير كراته أما مصيره كإنسان فحكايته تلخصها حكايتى، وبتعبير أدق، حكاية عمرى. حكاية بدأت بغواية من جانب أحد أعضاء المجموعة وإلحاحه على قضاء أمسية بريئة وانتهت بى ممددا على فراشى أعانى أنواعا من آلام فوق آدمية تأتى مع بداية أيام الانتقال من موسم إلى آخر.
• • •
لم نقضِ فى صالة اللعب أكثر من دقائق معدودة. أذكر أننى خلال التدريب ألقيت بثلاث كرات انحرفت الأولى نحو أقصى اليمين والثانية نحو اليسار الأبعد أما الثالثة فرفضت أن تتخلى عن أصابعى واختطفتنى عنوة ودارت بى حول نفسى عدة مرات قبل أن نستقر معا على أرض الملعب بين مقاعد الزبائن والحكام. أفقت لأجد نفسى فى عيادة طبيب مبتسم وأصدقاء فى مجموعة الأمسية الأسى غالب على قسماتهم والإشفاق ربما. همس الطبيب فى أذنى راجيا أن لا أتحرك كثيرا فذراعى حسب قوله كاد ينخلع ولم يتمكن الأطباء من تقدير حجم الضرر الذى أصاب فقرات سلسلة الظهر. استطاع أصدقاء لى فى هذا المنتجع ترتيب رحلة عودتى إلى البلد الذى أقيم فيه وأعمل. هناك وفى مشفى كبير وحديث بمعيار زمن وقوع هفوتى شخصوا الحال وقرروا أن الراحة الفورية واجبة مع الإشراف الطبى لأسابيع وأن الانتباه والمراقبة الدائمتين مع المعاملة الإنسانية للظهر والرقبة والساقين واجبات ضرورية لعمر كامل.
• • •
صدقت نبوءة الأطباء. ظل الأمل يعاودنى فى/أو بعد كل رحلة طويلة بالطائرة وما أكثر الرحلات الطويلة التى قمت بها وبخاصة فى وقت لم تكن صناعة الطائرات تطورت. عشنا فى زمن كانت المنافسة لا تزال قوية بين شركات الطيران وشركات النقل البحرى. عرفت كثيرين عاملين فى مهنة الدبلوماسية كانوا يفضلون السفر بحرا إذا كانت المسافات طويلة. لم تتح لى يوما فرصة السفر من الصين إلى إيطاليا بحرا أو من الإسكندرية إلى موانى فى شيلى أو الأرجنتين. قبلت السفر بالطائرة التى كانت تسمح للمسافر على خطوط بعيدة أن يقطع رحلته ليقضى يومين أو ثلاثة على نفقة الشركة الناقلة فى مدينة ثالثة على خط الرحلة الطويلة. أذكر أننى تعرفت على زيوريخ وجنيف وباريس وأثينا والكويت وبانجكوك وهونج كونج وريو دى جانيرو وفيينا وبرلين وإسطنبول وداكار بفضل هذه المنافسة بين شركات النقل البحرى وشركات النقل الجوى، تعرفت عليها وعلى غيرها قبل أن أقصدها خصيصا لأداء مهمة أو أخرى من مهام وزارة الخارجية وجامعة الدول العربية ومؤتمرات البحث فى الشئون الدولية والاجتماعية. أعترف أننى فى أغلب هذه الرحلات لم أستفد بمتعة خالصة تشبع بعض فضولى الشخصى فى السياحة أو غيرها. لم أستفد بسبب ما لاحقنى وإن بشكل متقطع من آلام الظهر نتيجة السفر الطويل أو الجلوس لمدد غير إنسانية فى اجتماعات أو زيارات.
• • •
آلام الظهر أنواع بعدد فقراته وعضلاته وخطوط شبكة أعصابه وربما أكثر. لن أنافس هنا الأطباء المتخصصين فهم ولا شك أعلم وأصدق، ولكنى عندما أدس بأنفى فيما لم أدرسه فى كتاب ولكن فيما قضيت فيه ومعه معظم سنوات عمرى، يصير من حقى أن أدلى بدلوى فى أى نقاش بشأنه. عشت مع هذه الآلام فى كل بقاع، أقصد قارات، العالم. أذكر جيدا قسوة معاناتى للوجع وأنا مجبر على عدم مغادرة مقعدى فى قاعة اجتماع ساحرة خلدت بهندستها من هندسها وبزينتها من زينها، أتأملهما بالإعجاب بينما أصغى بملل مع زملاء عديدين لخطاب رئيس دولة كتبه محرر خطب مدرب على استخدام محسنات اللغة وليس على جوهر ما تريد حكومته أن تنقله إلى مؤتمر يضم أكثر من خمسين رئيسا آخر. طلبنى رئيسى المباشر بعد رفع الجلسة ليطمئن إلى أننى سجلت فحوى خطاب المتحدث، تجنبت الجواب فرئيسى المتقدم فى العمر لم يتمكن بسبب آلام ظهره الانصات. لجأ إلى من هو أصغر سنا غير القادر على استيعاب خطاب المتحدث للسبب نفسه. لجأت بدورى لزميل شاب فى وفد آخر، فاجأنى الدبلوماسى المخضرم حين أجاب متسائلا، «لماذا اهتمامكم بما يأتى فى خطب الرؤساء. لا أحد يا زميلى فى هذه المؤتمرات يستمع أو يقرأ ما يلقى من خطب. كل الزعماء يقرأون ما كتب لهم ولا أحد فيهم يرد على ما جاء فى خطب الآخرين. أشفقت عليك وأنا أتابع قسمات وجهك تتلوى من الألم. عرفت أنها آلام ظهر فأنا نفسى والغالبية العظمى من الحاضرين يعانون ويتألمون، كلنا ندفع ثمن اشتغالنا بهذه المهنة الرائعة».
• • •
يا صديقى، أذكر شراكتنا وأذكر أياما اجتمع فيها الأمل بالألم. لا أعرف أين صرت ولا كيف صرت. ولكنى أعرف عن رحلتى. وصلت يا صديقى إلى محطة الكتابة قادما من محطة الدبلوماسية وفى صحبتى كلاهما: الأمل والألم، لا أتخلى عنهما ولا يتخليان عنى ولا يفترقان. هل أزيدك من حكاياتى؟. قبل خمسة أسابيع أو أكثر انغمست فى الكتابة. كنت أكتب عن تفاصيل أحداث بديعة وقعت قبل ثلاثين سنة أو أكثر. مرت ساعة وأنا أكتب، قرأت ما كتبت وبعدها قفزت من المكتب متوجها نحو المطبخ حاملا النية فى منح نفسى مكافأة. شراب ساخن مع قطعة شوكولاته. كنت بالفعل سعيدا، ربما تجاوزت بسعادتى وحماستى بطء تصرفاتى وسلوكياتى إلى حد أن فقدت توازنى لأقع بقوة وصوت ارتطام جسم غير بسيط الوزن بأرضية ناعمة.
زحفت كثيرا ثم استعنت بمقابض الأبواب والأدراج لأنهض، ونهضت. نهضت لأكتشف أن فقرات الظهر ثائرة بالغضب والألم. عشت عقودا عديدة أتفادى بالحذر الشديد والثقة الفائرة أن أخطئ فأرتكب هفوة أخرى فى حجم وصوت هذه «الوقعة». مرت الليلة بتعقيدات عديدة وشهد اليوم التالى وصول ماكينات التصوير بالأشعة. ما أذكره بوضوح عن تلك الساعات الصعبة والطويلة قليل وأظن ما تخلف عنها من توجيهات وقرارات لم يعكس ما عرف عن صاحبها فى ظروف الأزمة من حكمة ورشادة. تولى هذه المهمة، أقصد إصدار التوجيهات، الطبيب المختص تساعده الابنتان الكريمتان اللتان عهدتا لنفسيهما بإدارة شئون أبيهما وتولى أموره، فالأب الذى هو صاحب الشأن والأمر الواقع سوف يكون ولأسابيع عديدة واقعا هو نفسه تحت نفوذ وإرادة أدوية وحقن مسكنة «أو بالحق»، مواد مخدرة.
• • •
جربت الكتابة. لم أفهم بعض ما كتبت ولم أصدق أننى كتبت البعض الآخر. كشفت الكلمات وقتها عن عقل مشتت وأفكار متضاربة. أضف إلى آلام الفقرات الأوجاع اللامتناهية الناتجة عن أعمال القتل والتنكيل الجارية على مقربة من حدودنا مع فلسطين أو ما تبقى منها، إن فعلت وأضفت الأوجاع إلى الآلام كنت ستجد أمامك فى البداية إنسانا غير صالح للكتابة. فى النهاية أظن أننى أفلحت فيما عجز الأطباء عن تحقيقه. سيطرت على كثير من مصادر الألم رافضا الاستسلام ومقاوما بعناد وتصميم غوايات مختلف شياطين الأوجاع ومستدعيا القدرة الذاتية على تجاوز العقبات.