بقلم - جميل مطر
اتصلت بشقيقتى، وهى الأصغر فى رباعيتنا، ساعيا وراء توثيق معلومات عن جناح فى العائلة وردت سيرته فى دفتر ذكرياتى. يقف على رأس هذا الجناح اثنان من كبار تجار قاهرة المعز وتربطهما بى كصاحب هذا الدفتر قضيتان هما الأفراح وجمعة الوكالة. لا علاقة لشقيقتى بجمعة الوكالة وبالفعل لم أشاركها فى تفاصيلها ولكن أعرف أنها تتذكر تفاصيل كثيرة تتعلق بالقضية الأخرى، أقصد أفراح وأعياد نصبت فى قصور هذا الجناح من العائلة. سألتها فأجابت بجملة مفيدة من سردية طويلة لا يتسع لها حيز ما أكتب فيه هنا ولا حتى فى دفتر ذكرياتى.
أما جملتها المفيدة التى افتتحت بها شهادتها فنصها: «كنت فى الثامنة من عمرى عندما كانت أمى تفرض علينا أن نأكل فى بيتنا حتى نشبع قبل أن نتوجه جميعنا إلى فرح أو آخر من أفراح هذا الجناح من عائلة أبى. خافت أن تزوغ عيوننا وبطوننا على منظر الموائد المنصوبة ومحتوياتها الشهية فننسى ما نشأنا عليه من أخلاق ونتصرف بغير اتزان». أضافت الشقيقة العزيزة قائلة: «لغاية دلوقت يا أخويا، وبعد أكتر من ستين سنة، لا يزال منظر صينية الحمام المخلى وصوانى الحملان والديوك الرومى المحشية والحلويات الشامية المستوردة بالطائرة مطبوعا فى خيالى. حاجة زى صفحة من كتاب ألف ليلة وليلة. أرجع وأقول أمى كان ليها حق».
• • •
أذكر أفراحهم طبعا لنفس السبب الذى جاء فى مكالمة شقيقتى ولأسباب أخرى يأتى ذكرها فى صفحة أخرى من هذا الدفتر قد أعود إليها فى مناسبة لاحقة. الآن تلح القضية الثانية، قضية وكالة الموسكى. لا أعرف سببا مباشرا وراء هذا الاهتمام غير أن ابنتى الأصغر عادت أمس من رحلة عائلية إلى قاهرة المعز وساءها ما رأت من فوضى ساهم فى صنعها عشرات من مركبات التوك توك وقذارة ونفايات بلا حدود ولا معنى وضجيج هائل. كله، مع غيره من دوافع التوتر، أصاب طفلا من أطفال الرحلة «العائلية التثقيفية» بالهلع حتى البكاء. سمعت الشكوى حتى نهايتها وغطست فى الذكريات أقارن، ببعض التحيز ولا شك، لأيام وأيام.
• • •
أصحاب الأفراح هم أصحاب وكالة تجارة فى الموسكى. هما شقيقان يمتان لوالدى بصلة قرابة وثيقة، فوالدى ابن خالتهما. خصص والدى لزيارتهما فى الوكالة يوم جمعة من كل شهر أصحبه فيها مشيا على الأقدام مرتديا أحدث وأغلى ثياب تنتقيها أمى. المسافة بين شارع سامى المتفرع من شارع خيرت فى لاظوغلى وشارع الموسكى لم تكن طويلة بمعايير ذلك الزمن. هى الآن طويلة جدا.
أصارحكم بأننى وأنا فى العاشرة وما يزيد كنت أنتعش فى كل مرة بحفاوة ترحيبهما بنا. كنت وأنا فى سن المراهقة أتعامل عندهما وبفضلهما كرجل. يتعمدان تصديرى لمسئوليات كبار. كان والدى ينتهز فرصة وجوده فى الموسكى ليمر على وكالات يمتلكها أقارب آخرون فى الغورية والعطارين وسيدنا الحسين. يتركنى فى رعاية «ولاد خالته».
• • •
هناك من موقعى فى الوكالة مطلا على الرائحين والغادين ومستقبلا الزبائن والمراسلين ومنصتا إلى حوارات أهل الحى تدور بلغة التجارة والمال وبكثير من الصدق والأمانة، كلاهما قولا على الدوام وفعلا فى الغالب. أنا مدين لأيام الجمع هذه والوكالة وهؤلاء الناس. اطلعت فى رحابهم على معانى الأصالة فى المعاملات والجودة فى التصرفات. فاتنى أن أذكر أنه بعد صلاة الجمعة كنا نتهيأ لوجبة شهية من عند أصهارنا، عائلة الدهان، تتصدرها قطع رائعة من كباب الضأن، والأهم منها وأقصد شرائح ثرية من ضلوع الجدى قضت ليلتها مع عصير البصل فى «تنور» البيت حتى نضجت عند شروق الشمس واشتهت واشتهاها فم آكلها.
• • •
كثيرا ما انبهرت فى أثناء ساعات وجودى بالوكالة بحلو الكلام الموجه لامرأة يلف جسدها الممشوق «ملاية لف» وعلى وجهها برقع سرعان ما يرتفع أو ينسدل تحت وقع تمتمات الغزل الرفيع ونغماته الساحرة. تعلمت هناك أن للكلمة «الناطقة» معانى ورسائل لا تحكى عنها ولا تفشيها الكلمة «الساكتة». ترددت على مسامعى كلمة «يا حاج» كنداءات أكثرها فى الحقيقة «لهفات» أو «آهات» والحاج على الطرف الآخر مجامل بأدب أو متقبل فى خشوع مبهر. يتنازل فى الثمن متأثرا أو موحيا بالتأثر بينما الحقيقة غير غائبة عن عماله وشقيقه وفى غالب الأحوال عن الزبونة نفسها صاحبة الرسائل الناعمة. الحقيقة أن الزيادة فى السعر عند عرض البضاعة محسوب حسابها ومتوقع التنازل عنها. هنا فى هذا المكان وفى مثله تصبح التجارة نزهة ممتعة لكل أطرافها.
كثيرا أيضا ما جرت بينى وبين المراسلين حوارات، وهذه متعة أخرى. يأتى المراسل ومعه حقيبة فارغة. يتقدم إليه عامل من العمال ليأخذها وفى الوقت نفسه يسلمه حقيبة مكدسة بالبضاعة. ينتقل بعدها المراسل إلى غرفة المحاسب ليدفع إليه بحصيلة ما باع ويحصل منه على أتعابه أو نصيبه حسبما اتفق. مهمة المراسلين بيع هذه البضاعة فى أنحاء ريف مصر. من أسمائهم وحواراتى معهم أدركت أنهم يهود. ومن نقاش وتدريب مع الحاج الكبير أدركت أنهم المفضلون لدى الوكالة «لأن بضاعتنا معهم هى الأكثر مبيعا». لا غرابة فى هذه الثقة فطبيب عائلتى الخاص كان يهوديا من سكان حى الظاهر. كلهم اختفوا فجأة بعد قنبلة سينما مترو. بعدها صار قريبنا صاحب الوكالة دائم الشكوى بسبب نقص عائد مبيعات الأرياف.
• • •
كان ابن عمى واحدا من مراسلى الوكالة المصريين. بدأ صغيرا فى الوكالة يعمل فى مختلف أقسامها. أظهر نبوغا فاشتغل مراسلا. تعرف على سوق المنسوجات القطنية وبخاصة سوق الملابس الداخلية وهى المنتجات التى تخصصت الوكالة فى تسويقها. استطاع بفضل اتصالاته ونبوغه الحصول على قرض من البنوك ليقيم مصنعا لإنتاج الملابس الداخلية للرجال. ساعدته الوكالة بعلاقاتها وضماناتها. قام المصنع وتوسع فى الإنتاج لتصبح شركته أحد أهم المنتجين والمصدرين للسوق العربية. أذكر أنه تحدث ذات يوم مع شقيقى الأكبر منى سنا وكان فى مثل عمره. قال له: «اترك الميرى يا ابن عمى وانضم لى نعمل سوا المعجزات»، تردد أخى ورفض بتأثير الوالد. بعد فترة قصيرة امتدت لمصنعه وكل شركاته يد التأميم فعاد صغيرا ولم يكبر مرة أخرى. من ناحية أخرى تقلصت أعمال الوكالة مع كبر سن مؤسسيها ثم بتقاعدهما. سافرت إلى خارج البلاد ولم أعد أسمع عن أفراح يقيمانها فى قصرهما بالعباسية، القصر الذى قضينا فى بعض جنباته أسعد لحظات طفولتنا ومراهقتنا.
• • •
يصر دفتر ذكرياتى على تذكيرى بأننى عشت أياما سعيدة.