بقلم:أمينة خيري
«التزييف العميق»! هذه العبارة العبقرية تمثل ما نعيشه الآن، ويتوقع أن يستمر معنا سنوات وربما عقوداً أو قروناً يتحول خلالها التزييف إلى عميق جداً أو عميق جداً جداً.التزييف العميق لم يعد فقط تقنية تعتمد على الذكاء الاصطناعى حيث يتم استبدال صورة وجه أو صوت أو جسد شخص بآخر يكون هو الهدف من التزييف. وقد يكون التزييف العميق عبر فيديو يبدو للمتابع كأنه حقيقة واقعة لا شك فيها، حيث مجموعة متظاهرين مثلاً تعرضت أمس لتعامل بالغ العنف من قبل الشرطة فى شارع كذا، ووقوع قتلى وحدوث إصابات فيما يظهر طفل برىء جميل وهو يستعطف القوات أن تترك أمه المسكينة وتدع أخته الغلبانة وأن يأخذوه بدلاً منهما إلى آخر الفيديو. تشاهده الملايين، وتستنفر المشاعر، وتبدأ ردود الفعل المتوقعة من تنديد بما جرى، ومطالبات بمحاسبة المسئولين عن المهزلة، وربما إقالة الحكومة ومحاكمة الجميع.. إلخ.هذه الملايين المستنفرة عروقها غضباً وكمداً، بينها ربما عشرة أو عشرون أو ثلاثون شخصاً ممن سيقومون بعملية التدقيق والتأكد من صحة الفيديو. الجماهير الغفيرة ستتعامل مع الفيديو باعتباره حقيقة واقعة. ليس هذا فقط، بل حين يناقشها أحدهم فى منطقية ما ورد فى الفيديو، وأن المتظاهرين مثلاً كانوا يرتدون ملابس صيفية وأن ما ورد فى الفيديو باعتباره «تظاهرات أمس» كان بتاريخ يناير مثلاً، يرفضون ويتجاهلون المنطق. لماذا؟ لأن عصر التزييف العميق قائم على قواعد بالغة الذكاء، وتقنيات غاية فى النبوغ.غاية القول إن عصر التزييف العميق أصبح منظومة وثقافة قائمة بذاتها. التقنيون «أبدعوا» فى قواعد التزييف التقنى، والشعوب تلقفت هذا «الإبداع» وتعاملت معه كل بحسب هواه وأهدافه واحتياجاته وثقافته وأيديولوجيته.خذ عندك مثلاً، عزيزى القارئ، هذا الطوفان الهادر من الأشخاص الذين قرروا أن «يحللوا» الأخبار والأحداث والحوادث يومياً على أثير الـ«سوشيال ميديا». بعضهم يحللها من منطلق نظرته الشخصية، والبعض الآخر بناء على أيديولوجية مسبقة ينتمى لها، وفريق ثالث تكون نقطة انطلاقه إما التأييد الكامل للنظام السياسى القائم أو المعارضة الشاملة له، وهلم جرا. أما الجماهير الغفيرة لـ«السوشيال ميديا» فى عصر التزييف العميق، فهى تجد نفسها منجذبة ومتابعة لما يناسب أهواءها المسبقة، دون أن تعى ذلك.فمثلاً، الشخص المتزمت دينياً الذى يرى الدنيا بتفاصيلها حراماً فى حرام سيجد نفسه متابعاً مخلصاً ومعجباً مداوماً لتحليل الأخبار على لسان فلان المنتمى -كما يبدو من مظهره وأسلوب كلامه وتدويناته على صفحاته التشخيصية- لتيار دينى متشدد. والشخص الاشتراكى الكاره للرأسمالية والمندد بالاقتصاد الحر والناقم على الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج سينجذب للاشتراكى اليسارى وربما الشيوعى. والشخص الكنبوى (من حزب الكنبة) فسيجد نفساً أكثر ميلاً لمن يتحدث عن الأخبار ولكن من منطلق مشكلاته اليومية، حيث قرارات البنك المركزى الأمريكى وأثرها على أسعار الجبن والزيت والسكر والدواجن، وحرب روسيا فى أوكرانيا ودلالاتها على أسعار المواصلات ومصروفات المدارس وهلم جرا.ويلاحظ فى عصر تزييف الوعى العميق -سواء كان هذا مقصوداً أو أنه من الآثار العكسية لتقنيات الذكاء الاصطناعى والثورة الرقمية- أن الواقعين تحت تأثيره ينكرون بشدة أنهم ضحاياه. الأدهى من ذلك، أن هؤلاء الضحايا متحزّبون إلى فرق وجماعات. فكل فرقة تعتبر نفسها الفرقة الناجية من التزييف العميق، فى حين أن كل الفرق الأخرى غارقة حتى الثمالة فيه.تزييف الوعى العميق لا يقتصر على شعب دون آخر، أو منطقة وليس غيرها. لكن هناك عدة عوامل تصنع الفارق فى درجات التزييف وآثاره ومدى انتشاره، منها على سبيل المثال لا الحصر: درجة الثقافة ونوعية التعليم. فمن يعتبر الثقافة رفاهية ويعتنق منظومة التعليم القائمة على «آمين» حيث لا مجال للتفكير أو مساحة للنقد أو فرصة للسؤال عن الأسباب هو الأكثر وقوعاً تحت طائلة تزييف الوعى العميق. كما أن المجتمعات التى تعانى تضييقاً أكثر عرضة بشكل عام للارتماء فى أحضان المزيفين بأشكالهم وأنواعهم.والمتابع لما يجرى حولنا فى الآونة الأخيرة من أحداث وحوادث سيجد أن البطل الرئيسى أو شبه الرئيسى فيها والذى يجمع بينها على اختلافها هو الـ«سوشيال ميديا». المسألة تعدت حدود الهبد والرزع، والرأى المختلط بالمعلومة أو شبه المعلومة. صار الأثير فوضى غير خلاقة.ليس المطلوب إغلاق الأثير. ولا نطمح إلى تبديله بأثير آخر أكثر مسئولية أو أخلاقية أو معلوماتية. لماذا؟ لأن هذا ليس فى استطاعتنا، وما فى استطاعتنا أن نتعايش مع الأثير وتقنيات التزييف العميق بمزيد من الوعى والمكاشفة والمصارحة وإتاحة المعلومات من مصادرها، هذا المدى الآنى. أما المستقبل القريب والبعيد، فلا مجال لمواجهة التزييف العميق سوى بوعى أكثر حرية وأشد عمقاً عبر التعليم الحقيقى لا التلقينى، والتثقيف حيث المتعلم ليس بالضرورة مثقفاً. ورب مثقف حصل على قدر متواضع من التعليم، لكنه قادر على التفكير لنفسه بدون وسيط خير من ألف متعلم متحجر حصل على الدرجات النهائية فى الثانوية العامة.