أسبوع مثقل بمشاهد ووقائع كفيلة بأن تجعل البشرية تبكى إنسانيتها حتى آخر العمر. لكنه أيضاً أسبوع كاشف بالكثير، ومنبئ بالأكثر، ولمن أراد يعلمنا ويخبرنا الكثير عن أنفسنا وعن حالنا.
حال غزة لا يحتاج المزيد من الكلام، وهو حال يعكس أن الفواتير كثيراً ما يسددها آخرون من غير اللاعبين الرئيسيين.
قرارات وتحركات وتحالفات وأفعال وردود أفعال تدور رحاها، ثم يُترك مدنيون عزل يسددون فواتير يومية من قتلى ومصابين وبيوت مهدمة ومصادر رزق تبخرت فى الهواء، ومعهم دول ومؤسسات مطلوب منها أن تحل وتواجه وتجابه وتعالج وتنقذ وترضى جميع الأطراف، وإن لم تفعل تجد نفسها فى خانة المتهم دائماً وأبداً.
الخطوات الهادئة والمدروسة التى تتخذها مصر منذ قامت «حماس» بعمليتها يوم 7 أكتوبر رائعة.
والهادئة لا تعنى بطيئة، بل تعنى حسابات دقيقة لما يجرى على الأرض، وأولوية قصوى لحياة الأشقاء المدنيين من نساء ورجال وأطفال فى غزة ومعها أمن مصر القومى، بالإضافة لمصير القضية الفلسطينية برمتها.
وفى هذه الأخيرة، القضية الفلسطينية، والتى بدا تماماً سواء من رد الفعل الرسمى أو رد فعل المصريين العاديين أنها فى القلب من السياسة المصرية وحياة المصريين، تبذل جهات ودول ومؤسسات عدة جهوداً «من تحت لتحت» لوضع مصر والمصريين مجدداً فى خانة المتهم.
لكن هذه المرة الحقائق والخطوات والأفعال واضحة وضوح الشمس.
وبمناسبة الحديث عن الشمس، تجدر الإشارة إلى أن شمس «القاهرة الإخبارية» أكدت سطوعها الخبرى والتحليلى والمهنى بينما تطفئ شمعتها الأولى.
شاءت الظروف والأقدار أن يمر عيد انطلاق قناة «القاهرة الإخبارية» الأول فى خضم الحرب الدائرة فى قطاع غزة، والتى يمتد شررها ولهيبها إلى كل دول المنطقة، وحتى الدول الواقعة على بعد آلاف الأميال من المنطقة.
لكن هذه الظروف والأقدار نفسها جعلت «القاهرة الإخبارية» -هذه القناة المصرية الإخبارية التحليلية التى تجمع أجيالاً مختلفة من الإعلاميين والمراسلين والمتخصصين فى العمل المهنى الكفء- مصدراً رئيسياً للخبر المدقق لمؤسسات إعلامية عربية وغير عربية منذ بدأت الحرب فى غزة.
وأود أن أضع العديد من السطور تحت عبارة «أجيال مختلفة» فى هذا الصدد. فعقب أحداث يناير 2011، انتشرت دعوات تقوم على مبدأ إقصاء الأكبر سناً.
ربما قامت هذه الدعوات فى جزء منها على رد فعل انتقامى أو مفرط لهيمنة وجوه بعينها على أصعدة السياسة والاقتصاد لا تتغير أو تتبدل على مدار عقود، لكنها (الدعوات) تحولت إلى ما يشبه دعوات التنمر بكل من بلغ عقده الخامس وما فوق.
لكن حين تصدم سيارة يقودها أهوج أو أرعن شخصاً وتصيبه، فإن هذا لا يعنى أن ألقى السيارة فى سلة القمامة وأمنع استخدام السيارات.
وعلى سيرة سيارات الإسعاف المصرية التى اصطفت على أبواب معبر رفح صباح يوم الأربعاء، ودخلت الجانب الفلسطينى، وحملت أعداداً من المصابين بإصابات خطيرة جراء القصف الإسرائيلى المجنون على القطاع، فإن وسائل إعلام الأرض نقلت هذا المشهد على الهواء مباشرة على مدار ساعات. فى الوقت نفسه، تعاملت وسائل أخرى مع المشهد وكأنه خبر عادى، يركض حيناً أسفل الشاشة، أى أسفل المكان المخصص للأخبار العاجلة، ويشار له حيناً ضمن النشرة.
عموماً، ما تقدمه مصر وما يفعله المصريون، هو الواجب وليس انتظاراً لتنويه أو بحثاً عن دور. فالدور محفور فى التاريخ، وواضح فى الجغرافيا، وحاضر بالأفعال.
ويضاف إلى كل ذلك أن ما يجرى فى غزة ولأهل غزة من المدنيين هو الأولوية الآن، ولا مجال لغضب أو عتاب أو حتى التفات لسواه. إنها مأساة القرن.
تفجرت مأساة غزة يوم 7 أكتوبر. يوم 8 أكتوبر كان حديث التهجير والتوطين دائراً ملء السمع والبصر، وأحاديث الساسة ومقترحات المنظرين، ومناقشات المتحاورين.
وفجأة تنشر وسائل إعلام غربية وثائق «سرية» عن الخطط التى وضعتها إسرائيل قبل أكثر من نصف قرن لترحيل الآلاف من فلسطينيى غزة إلى سيناء.
وفجأة يخرج علينا عبر قنوات «يو تيوب» منظرون يقيمون فى خارج البلاد ليسكبوا على الأثير «معلومات» لا يعلمها سواهم عن تفاصيل ما يجرى، والخطوات التى لا يعلمها أحد سواهم من مكاتبهم المنمقة المنسقة المطلة على بحيرات وحدائق غناء وغيرها.
التعبير عن الرأى حق من حقوق الإنسان، وإطلاق العنان لمشاعر غضب أو فرح، ومخاوف أو آمال، ورؤى ومواقف أيضاً حق مكفول.
ويفضل أن يكون هذا الحق المكفول مصحوباً بقدر ولو ضئيل من المسئولية الأخلاقية والإنسانية. لكن هذه المسئولية ليس منصوصاً عليها فى المواثيق والقوانين، لذلك يسمونها «مسئولية».
مسئولية المتلقى التدقيق، والتخلى ولو مؤقتاً عن ثقافة «آمين» التى تم زرعها بطرق شتى فى عقولنا. قليل من التفكر لا يضر، وكثير من التعقل لا يميت.