بقلم:أمينة خيري
حين تتساءل عن سبب أصوات الموسيقى العالية لدرجة استحالة سماع متلاصقين لحديث بعضهما البعض، فيأتيك الرد «إنت مش عايز الناس تفرح ولا إيه؟»، وحين ينزل عليك رد: «إنت مش عايز الناس تسمع الأذان ولا إيه؟» حين تشكو من صوت عشرات مكبرات الصوت المثبتة على مساجد متلاصقة فى شارع واحد بالإضافة إلى مبادرة البعض لتعلية صوته كأنه يزعق داخل المكبر.
وحين تبدى تعجبك من أن ركاب الميكروباص لا تبدو على وجوههم أمارات انزعاج أو علامات امتعاض، حيث السائق يملأ الفراغ بين الكلاكسين الممتدين بكلاكس ثالث أكثر امتدادا، لا تملك إلا أن يتسلل لك هاجس بضرورة مراجعة نفسك، فليس من المعقول أن يكون كل هؤلاء مخطئين، وأنت وحدك المحق. خرجت من حفل زفاف ابن أحد الأصدقاء وقد فقدت صوتى تماما.
لم أغن، ولم أهتف للعروسين، ولم أتفاعل حتى مع الأغانى التى لم أفهم منها كلمة تحت وطأة السماعات العملاقة التى تبث ذبذبات الصوت لتغطى على الصوت نفسه. كل ما فعلته هو أننى كنت أحاول أن أبقى على الحديث بينى وبين من تجلس إلى جوارى مستمرا. هى مصممة على توجيه أسئلة لى، أو سرد قصص عن عملها وأسرتها، وقواعد الذوق واللياقة تحتم على أن أرد وأعلق بما تيسر.
لكن طبقات صوتى ليست من النوع الذى يعطينى ملكة الصياح. وكانت النتيجة أنه بالإضافة إلى التوتر الشديد الذى أصابنى طيلة الحفل بسبب الصوت العالى لدرجة التسبب حرفيا فى فقدان السمع لثوان يعقبها طنين رهيب، وكذلك الحمل الثقيل المتمثل فى ضرورة التجاوب مع الصديقة، خرجت وقد اختفى صوتى تماما. وأمام طوفان أسئلة حول أسباب تحول معظم الأفراح إلى هبد صوتى رهيب، وأبواق سيارات الشوارع إلى عادات وتقاليد أكثر من كونها آلات تنبيه.
وتبادل صديقين يجلسان إلى جوار بعضهما فى المقهى الحديث، وكأن كلا منهما يحمل مكبر صوت، وعدم اعتبار تبادل وجهات النظر بين شخص يقف فى الشارع وآخر فى شرفة بيته فى الطابق الرابع عملا مجافيا لقواعد مراعاة الآخرين ودون مراعاة هامش خصوصية الحديث، وحتى طريقة غضب الأطفال وبكائهم، حيث الصوت يجلجل فى أرجاء المركز التجارى أو النادى الرياضى أو الميدان الشاسع كتبت «أصوات عالية.. ثقافة..» على «جوجل»، واكتشفت أننى لم أفقد عقلى بعد.
نعم، هناك وباء اسمه «ثقافة الصوت العالى المتصاعدة». صحيح أن أغلب من كتب عن هذا الوباء تناول الصوت العالى فى الحديث والاحتفال والنقاش والبكاء على اعتبار أنه ظاهرة حديثة وطارئة فى بعض المجتمعات، ولكن يكفينى أن هناك من لاحظ أن درجات الصوت العالى المبالغ فيه ليست طبيعية وجديرة بالبحث. وقد زاد طين الصوت البشرى العالى بلة الأصوات المتداخلة الصادرة من الهواتف المحمولة، حيث لا حرج من متابعة فيديوهات «تيك توك» وقفشات الأفلام بأعلى صوت دون سماعات أذن.