بقلم: فاطمة ناعوت
حين رأيتُ «عمر نبيل» فى حفل الموسيقار «على الحجار»، وددتُ عناقَه وتقبيله، لكننى تذكرتُ أن «عمر» شأن المتوحدين، يكره الأحضانَ والتلامسَ، فشددتُ على يديه وأنا أغوصُ فى تلك العينين الصافيتين خلف منظار طبى صافٍ كصفاء قلبه، وتلك الابتسامة الحلوة المرحبة بالعالم والحذرة منه فى آن.
أتجوّل بين صفحات الكتاب المدهش «عُمر.. من الشرنقة إلى الطيران» للكاتبة «فاطمة ناعوت»، والدة «عمر»، الرائعة بكل ما تعنيه الروعة من معانٍ، والتى لو لم تنجز فى حياتها الأدبية سوى هذا الإصدار لكفاها ووضعها فى خانة كبار الأدباء. فالأمُّ: شاعرة وصحفية ومترجمة، ومثقفة نبيلة، من أولئك المحاربات نصرةً لقضايا الوطن والعدالة والإنسانية ضد المتاجرين والعنصريين والظلاميين، ولن أتحدثَ عنها، فهى غنيّةٌ عن التعريف.. إنما حديثى عن كنزها الإنسانى الأكبر: ابنها «عمر». ففى كتابها الإنسانى عشتُ «تجربة الحياة والشغف»، بداية من مقدمة ا.د. «أحمد عكاشة» للكتاب، وشرحه الموجز لمتلازمة «أسبرجر» المصاب بها «عمر»، وهى متلازمة الجمال والرقى والسمو، يسميها البروفيسور عكاشة «الذاتوية»؛ لأن «الذاتوى» يستغنى بذاته عن العالم؛ وهى متلازمة العباقرة فى: الفنون (موتسارت، فان جوخ)، والرياضة (ليونيل ميسى)، والعلوم (إديسون، نيوتن، أينشتاين، بيل جيتس، إيلون ماسك).. على سبيل المثال لا الحصر.
يستعرضُ الكتابُ تجربة الأمّ مع ابنها منذ ميلاده ونبوغه فى شهوره الأولى، حين أعاد غطاء الترمومتر (مثلث الأضلاع) لمكانه بسهولة، وهو أمرٌ يستوجب من الكبار قدرًا من التركيز والتوافق البصرى العضلى، وتتوالى سمات النبوغ مع «عمر»، فيمشى دون حبو، ويقود الدراجة، ويتكلم ويتحكم فى الكمبيوتر، ويرسم لوحات فنية فائقة؛ ما يبشر بنابغة صغير.. إلى أن جاء يومٌ ما كان له أن يأتى، ليدخل الطفلُ قوقعة الانزواء ويرفع راية «التوحد» ويهجرَ العالمَ ويلوذ بغرفته ليرسم لوحاته صامتًا. إنها شرنقة «أسبرجر» التى جعلت الأمَّ تجزع من هكذا انسحاب مفاجئ.
تروى الأمُّ كيف كان لهذا التحوّل المخيف انعكاسٌ معتم على حياتها، وتحكى عن الرحلة الشاقة بين عيادات التخصصات المختلفة، علّها تعثر على طوق نجاة تُلقيه لطفلها فى بحر العُزلة الذى تتهادى أمواجه بهدوء قاتل لتسحب ابنها بعيدًا عنها، إلى قاع لا تعرف منتهاه.. رحلة تدعمها فيها أمُّها العظيمة القوية التى جعلها الحفيدُ «عمر» تبكى أمام طبيبة لتنقذه من خندق الصمت. وأما الزوج فكان يرى أن ابنهما ليس مريضًا، بل «مختلفٌ»، قائلًا: «عمر تمام!»، لكنها ترفض أن تصدقه؛ فهاجس الأمومة داخلها يصرخ بأن: «عمر مش تمام».
تعكفُ الأمُّ سنواتٍ على القراءة عن «طيف التوحد» وتعرف عنه الكثير، وتضعه فى الكتاب الذى يضم مادة علمية غزيرة عن المتلازمة وأعراضها وطرق التعامل، بل كانت تعتبر أى قراءة بعيدًا عن «التوحد» خيانة لـ«عمر». وراحت تؤجل كل شىء ريثما يطير صغيرُها من شرنقته ويخرج للعالم من جديد؛ أى ضحكة منها - فى زمن الشرنقة - مبتسرة ومبتورة، يحلُّ محلها فورًا حزن الأم النبيل.. أى نشاط عادى فى حياة امرأة مؤجل حتى يُشفى الصغير. هكذا شيّدت «فاطمة ناعوت» معبد أمومتها وراحت فى محرابه تبتهل إلى الله راجية الشفاء، لكنها فى لحظة صفو واعٍ تساءلت: «شفاءٌ مِمَّ؟!» عمر طفلٌ رقيق، صادقٌ، جميل، وفنان موهوب، ولا يعرفُ المجاملة ولا النفاق، ومنظم حد الهوس مهما حاولت الأمُّ تكسير النظام لئلا يقع الصغيرُ فى فخ الروتين.. فمِمَّ تسأل ربَّها الشفاء لابنها؟! بل علينا الدعاء لشفاء مَن ينافقون ويكذبون ويقتلون ويعنصرون.. إلى آخر تلك الموبقات التى يرتكبها «الأسوياء اسمًا لا حقيقة». تعلّمت الأمُّ أن تشكر اللهَ على منحها تلك الهدية المقدسة: ابنها المتوحد الجميل. وبعدما اكتشفت جمال عالمه الفريد، قررت أن تدخل معه فيه، وتتعلّم من مواقفه النبيلة؛ مثلما طار من بين يديها على كوبرى «قصر النيل» ليساعد عجوزًا يعبر الطريق.. واليوم الذى خاطر بنفسه فى نزول سلم كهربائى صاعد فى المطار ليساعد مُربيته على الصعود.. واليوم الذى أهدى بنتًا فقيرة تتسول على الكورنيش «وردةً» لا نقودًا، وغيرها من مواقف لا يصنعها إلا المتحضّرون.
خرج «عمر» مهندس المدن الطوباوية من شرنقة الهدوء والصمت، ويحاول اليومَ الاندماج فى صخب المجتمع بمساعدة أمّه الأديبة. فشكرًا على كتاب «عمر من الشرنقة إلى الطيران»، الذى كان لمسة حانية من يد الرحمن على قلب كل أمٍّ اصطفاها ومنحها طفلًا مصابًا بمتلازمة الجمال، وفى انتظار الكتاب القادم بقلم الأم «فاطمة ناعوت» حول مرحلة الطيران.
هذه المقطوعة الجميلة كتبها الشاعرُ الصحفى «أشرف ضمر»، لتكون مقدمة كتابى القادم «بيتٌ من المكعبات فى مدينة الملائكة»، الذى سوف يصدر بإذن الله عن دار «الأنجلو المصرية