بقلم: فاطمة ناعوت
أن تذكرَ كلمةَ «القانون» فلابد أن تذكر «مصرَ»؛ لأنها واجدةُ القانون، وأولُ مَن شرّعه وكتب أبجدياته فى فجر التاريخ. ويظلُّ «قانونُ ماعت» أعرقَ وأرقى ما ابتكر الإنسانُ من قيم أخلاقية؛ لا تنظّمُ أسسَ العَيش الكريم بين الناس وحسب، بل تُهذِّب الإنسانَ وتجعل منه كائنًا راقيًا مُستحقًا للحياة. تصوّروا قانونًا يُجرِّمُ أن يتسبّب إنسانٌ فى دموع إنسان آخر! تصوّروا قانونًا يُجرّمُ تعذيبَ الحيوان، بل يُجرّم تعذيب النبات بحرمانه من الماء؟!.. ومتى؟ قبل الميلاد والحضارات بآلاف السنين. وبالطبع استهلَّ القانونُ موادَّه بالقيم العليا للأخلاق: «لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تَشتهِ زوجة جارك....»، ثم جاءت مستوياتُ التهذيب الأعلى: «كنتُ عينًا للأعمى، كنتُ ساقًا للكسيح، كنتُ يدًا للمشلول، كنتُ أبًا لليتيم...»، بل كان القانونُ المصرى القديم أولَ من حضَّ على النظافة: «لم ألوّثْ مياهَ النهر»، وغير ذلك من فرائد الأخلاق والتحضُّر وردت فى بنود قانون «ماعت» المصرى التى بلغ عددُها 84 بندًا، نصفُها اعترافاتٌ ثبوتية: «كنتُ- فعلتُ»، ونصفُها الآخر 42 اعترافًا إنكاريًّا: «لم أكن، لم أفعل».
أفخرُ بأننى حفيدةُ أحد أنبه رجالات القانون فى مصر، مؤسس مجلة «دنيا القانون»، وصاحب كتاب «أشهر قضايا التاريخ... لأعلام القانون فى الشرق والغرب» الصادر عام 1966، وكتاب «المرافعات فى أشهر القضايا الجنائية» وغيرهما من الكتب الخالدة.. وهو المستشار «محمود عاصم» المحامى بالنقض. فى طفولتى، كنتُ أتأملُ روبَه الأسودَ المهيب، مُزيّنًا بأوسمة الشرف، معلّقًا على الشماعة فى غرفة مكتبه فى حى باب اللوق، فتغمرُنى حالٌ من الشعور بالإجلال والتوقير، إذ أوقن أن رجال القانون مجبولون من طينة أخرى غير البشر. فهم حمَلَة لواء «الحق»، واللهُ هو «الحق»، وهم سدنة باب «العدل»، واللهُ تعالى هو «العدل». وتأملوا معى عبقريةَ دلالة أن أسماء الله الحسنى لم تقل إن الله «عادل»، بل هو «العدل» المطلق.
حالُ الإجلال ذاتُها تغمرنى الآن وأنا أشهد من حولى رجالات القضاء وسدنة القانون فى هذا الحفل المهيب الذى أقامته «المؤسسة العربية للسلام والتنمية»، بالتعاون مع «محكمة التحكيم العربية»، و«مجلس الوحدة الاقتصادية بالجامعة العربية»، والذى نظّمه المستشار الجليل «كمال خليفة»، المدير التنفيذى لمركز «كميت للتحكيم الدولى» أمس الأول فى أحد الفنادق الكبرى، احتفالًا بـ«اليوم العالمى للقانون» الذى يحلُّ يوم 13 سبتمبر من كل عام، تذكيرًا للإنسانية برفعة لواء القانون الذى أوجده اللهُ قبل الخليقة تصديقًا لقوله: «والسماءَ رفعَها ووضع الميزان». والميزان هو رمز العدالة فى أدبيات الإنسان على مرّ العصور، تحملُه «ماعت» ربّةُ الضمير فى حضارتنا المصرية، التى نشهدها على جميع جداريات محاكم العالم تحمل الميزان معصوبةَ العينين، دلالة العدل المطلق وعدم المحاباة، وفوق رأسها ريشةُ الضمير.
تصوروا أن تضمَّ منصّةٌ واحدة قاماتٍ شواهقَ من أصحاب المعالى مع توقير الألقاب: «مفيد شهاب»، «عمرو موسى»، «إبراهيم محلب»، «أحمد الزند»، «محمد شيرين فهمى»، «محمد رضا شوكت»، «محمد عيد محجوب»، وغيرهم من فرائد رموز مصر وصنّاع تاريخها الحديث، قدّمهم المستشارُ «كمال خليفة» بقوله: «أولئك بعض قامات العدالة وسدنة الحق من شرفاء مصر الذين شرّعوا القانون، وطبّقوه، ونادوا به، وسعوا إليه...».
أشاد المهندس «إبراهيم محلب»، رئيس الوزراء الأسبق، بأهمية رجل القضاء بوصفه «سفيرَ الله على الأرض»، وأكّد أن قضاءَ مصرَ بخير. وقال أ. د. «مفيد شهاب»، عَلَمُ القانون الأشهر وأستاذ القانون الدولى، وصاحب اليد البيضاء فى استعادة مصر حقوقها فى قضايا تاريخية، إن القانون هو منظومة القيم الرفيعة التى تنظم الدولة وتحقق الأمن والاستقرار، ولذا تظلُّ له الكلمةُ العليا. وتحدث السيد «عمرو موسى»، السياسى الأشهر، عن «سيادة القانون» بوصفها أصلَ الحكم فى الدولة كما ينصُّ الدستور، وأوصى بأن يدرس التلاميذُ «دستور الوطن» فى مدارسهم؛ حتى ينشئوا مبكرًا على الوعى بفكرة «الحقوق».
وبالطبع لم تغب قضية «فلسطين» وعدوان الكيان الصهيونى السفّاح على غزة والعروبة بأسرها، عن فعاليات المؤتمر السنوى للاحتفال بيوم القانون. فأوصى السيد «عمرو موسى» بأن يصدر المؤتمرُ بيانَ إدانة لما تفعله «إسرائيل» من خرق صارخ للقانون الدولى وجميع مواثيق حقوق الإنسان، وبدعم فاضح من دول عظمى. كما تكلم المستشار «أحمد الزند» عن الكيان الصهيونى بوصفه «هولاكو العصر» الذى يقتل المدنيين ويتفنن فى ترويع الأطفال والنساء بشهيّة جائعة للدماء، ولا أحد يحاسبهم على تطاولهم على محكمة العدل الدولية، وهى أعلى بناء قضائى فى العالم، وبدعم كامل من أمريكا التى تمدهم بالمال والسلاح والتكنولوجيا. وكرّم المؤتمرُ روحَ العلّامة القانونى الراحل أ. د. «فتحى سرور» وتسلّم حفيدُه د. «حاتم» درعَ التكريم.
كل عام والقانون والحق والعدالة بخير.