«عمر خيرت» يعزفُ صمتًا

«عمر خيرت».. يعزفُ صمتًا!

«عمر خيرت».. يعزفُ صمتًا!

 عمان اليوم -

«عمر خيرت» يعزفُ صمتًا

بقلم: فاطمة ناعوت

عام ١٩٠١، فرش الإيطاليون الطرقاتِ فى وسط مدينة ميلانو بالقش، حول منزل الموسيقار العظيم «جوزيبيه فيردى»، مؤلف أوبرا «عايدة»، حتى لا يُزعجه ضجيجُ حوافر الخيول وعجلات العربات الخشبية. أولئك قومٌ مثقفون يدركون أن الموسيقار له طبيعة خاصة تختلفُ عن البشر العاديين، فأذناه تلتقطان أدقَّ نغمةٍ مما قد تمرُّ على آذاننا دون انتباه، لهذا كانوا حريصين على ألا تخدشَ أذنيه أصواتٌ نشازٌ جارحة، قد تعكّر صفو روحِه المبدعة.

تذكرتُ تلك الواقعة أمس الأول وأنا جالسة مع ابنى «عمر» فى مسرح أحد فنادق التجمع الخامس، أمام الأوركسترا ننتظرُّ بشغفٍ أن يدخل علينا الموسيقار «عمر خيرت» ليجلس إلى البيانو الشاغر، ويبدأ هديرُ العذوبة. كانت القاعة مكتظة بالجماهير الكثيفة، تعجُّ بالضجيج والشجار العنيف بين بعض الحضور والشركة المنظمة للحفل، إذ أخطأت الشركة وباعت بعض التذاكر مرتين! فكان هناك مئات من الحضور لا يجدون أماكنَ للجلوس! رحتُ أتساءل: «كيف للموسيقار الكبير أن يعزفَ بعد كل هذا الصخب والتطاول الذى لا يليقُ بمتذوّقى الموسيقى الراقية؟!! كان المفترض أن يبدأ الحفلُ فى الثامنة مساءً، وزحفت عقاربُ الساعة نحو العاشرة ليلا ولم ينته الصخبُ والشجارُ، حتى أعلن الموسيقارُ على صفحته انسحابَه من الحفل احترامًا لجمهوره، بسبب سوء تنظيم الحفل.

خرجنا من الفندق والناسُ حزانى. لكننى كنتُ أعرفُ أنهم يفعلون ما فعلتُ أنا وابنى «عمر». كانت موسيقى «عمر خيرت» تُعزفُ فى عقولنا بكامل عَتادها وعازفيها ونغماتها. ذاك أن مقطوعات «عمر خيرت» محفورة فى ذاكرتنا الجمعية ومضفورة بأرواحنا. لكننا نذهب إلى حفلاته لكى تمتزجَ النغمةُ بالصورة، فتسعدُ قلوبُنا برؤياه جالسًا إلى البيانو كما ملك يجلسُ على عرشه. وبين الحين والحين ينظرُ إلينا ليمنحنا بضع كلمات قليلة من معجمه الطيب. فالموسيقىُّ لا يتكلمُ إلا موسيقى، ولغتُه للتواصل البشرى، ليس الحكى، مثلنا، بل بالنغم الماسِّ الشجىّ.

شىءٌ ما أخبرنى قبل الحفل بأن هناك خطأ ما! فى طريقى إلى الحفل، كان الطريق الدائرى فى حالة طوارئ، ومداخل القاهرة الجديدة حاشدةٌ بالبشر والسيارات التى باتت تتحرك بمعدل مليمتر فى الدقيقة. حدسُ المهندس المعمارى داخلى قال لى: «أىُّ مسرحٍ مغلق فى العالم سوف يتسع لهذا العدد الهائل من البشر؟! وكيف سيدخل الموسيقارُ أصلا إلى الحفل فى هذا الزحام؟! لابد أن يستقل هليكوبتر تهبط مباشرة به فى كواليس المسرح!»، ثم انكشف اللغزُ حين علمتُ أن كثيرًا من المقاعد قد بيعت مرتين، ولهذا لم تتسع قاعةُ المسرح للجماهير الكثيفة. خطأ هائل ارتكبته الشركة المنظمة سهوًا، تسبب فى كل هذا الضجيج والشجار، ما أدّى إلى انزعاج الموسيقار الكبير وانسحابه! ولم أستطع أن أمنع نفسى من المقارنة بين حفلات الموسيقار الكبير فى «دار الأوبرا المصرية» بتنظيمها الدقيق وهدوء روادها كونهم فى «حَرَم الجمال»، وبين ما أرى فى حفلة الفندق. لا شىء يشبه «دولة الأوبرا»! ولكن ما حيلتنا والجماهيرُ المصرية والعربية تتوق إلى سماع «عمر خيرت» كلَّ يوم!.

لكنْ، رغم كل هذا لم يخلُ الحفلُ من جمال. أثناء كل هذا الصخب ونحن نُمنّى النفسَ بأن يهدأ الحالُ ويدخل علينا الموسيقارُ الكبير، إذا بطفل جميل يصعدُ إلى خشبة المسرح، ويجلس إلى البيانو ويعزف ببراعة بعض مقطوعات «عمر خيرت». خفّ الصخبُ وبدأ الناسُ ينصتون إلى الصبى الموهوب، وكم كنتُ أتمنى أن يسمعه الموسيقارُ الكبير ليفرح بما غرس من زهور فى أطفالنا. علمتُ بعد هذا أن الطفل اسمه «يوسف أحمد» فى مدرسة «هارودز»، وأن اليوم عيد ميلاده الـ ١١، وحضوره الحفلَ كان هدية والدته له.

قبل عشرين عامًا كنتُ أقودُ سيارتى وأثناء إشارة مرور طويلة كالدهر ومن حولى ضجيج الكلاكسات والبشر، كنتُ أضع كفىّ على أذنى لأخفف وقع الضجيج على عقلى، فأنا لدىّ فوبيا الضجيج. وإذا بزجاج السيارة المجاورة يُفتح، ويطلبُ منى قائدها أن أفتح نافذة سيارتى، ففعلتُ، وأنا أظنه يسألنى عن شىء. لكنه ابتسم وألقى لى شريط تسجيل قائلا: «اسمعى ده!»، نظرتُ إلى الكاسيت لأجد صورة «عمر خيرت»، وضعت الكاسيت فى مسجل السيارة، وأدرت الصوت على الأعلى، لكى أنقذ نفسى من تروما الضجيج.

صمتُ «عمر خيرت» عن العزف بالأمس كان عزفًا فلسفيًّا وأخلاقيا راقيًا. فكما يقوم إيقاعُ الموسيقى على الموازنة بين النغمة والسكتة، ويقوم الإيقاعُ الشعرىّ على الحركة والسكون، ويقوم إيقاعُ العمارة على اللعب بالكتلة والفراغ. فإن الصمتَ كذلك هو الجوهرُ النشطُ للفنون الراقية فى لحظات الضجيج والمشاحنات. فطوبى للصمت حين يعلّمنا جمالَ القول وخفوت الصخب، وشكرًا للصامتين حين يتشاجرُ البشر. شكرًا يا مايسترو «عمر خيرت»، على درس الأمس الذى علمتنا إياه.

 

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عمر خيرت» يعزفُ صمتًا «عمر خيرت» يعزفُ صمتًا



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 19:13 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 عمان اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 18:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 عمان اليوم - مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:01 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الاسد

GMT 21:16 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab