غيابُ الرحمة عن وجه العالم

غيابُ الرحمة عن وجه العالم

غيابُ الرحمة عن وجه العالم

 عمان اليوم -

غيابُ الرحمة عن وجه العالم

بقلم: فاطمة ناعوت

العالمُ ليس بخير. الرحمةُ غادرت؛ وحين تُغادرُ الرحمةُ لا تترك وراءها إلا الويل والخراب. دائمًا ما أسألُ نفسى: «تُرى، هل العقيدةُ هدفٌ، أم وسيلة؟»، وأجيبُ سؤالى بما يرتاحُ له قلبى وعقلى: «أؤمنُ أن الدينَ وسيلةٌ للترقّى وبناءِ منظومة الأخلاق، فالله تعالى وجلَّ غنىٌّ عن عبادتنا أجمعين، إنما يريد منّا الرحمنُ: الصلاحَ والرحمة والجدّ والصدق والنظافة والسموّ والتحضر وإعمال العقل، فجاءت الشرائعُ لبناء وتكريس كل ما سبق. ودون ما سبق لا قيمة لطقوس دينية نؤديها بأجسادنا لأن الله غنىٌّ عنّا وعن طقوسنا». ذاك هو الدرسُ الذي تعلّمته مبكرًا من أبى رحمه الله، وسَيّر حياتى كلَّها منذ طفولتى وصباى وحتى اليوم، وسأظلُّ أؤمن به مهما كلفنى من مشاكل جمّة وسوء فهم حادّ بينى وبين المتعصبين من كل مِلّة ودين وعقيدة ومعتقد. لهذا أحبُّ كثيرًا الحديث الشريف: «مَن لم تَنْهه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر، فلا صلاةَ له». والفواحشُ، في ميزانى الخاص، تبدأ من القسوة على نبتة صغيرة، أو ترويع طفل، أو إفزاع امرأة، قبل أن نصل إلى مراحل الفُحش القصوى من تقتيل العُزّل الآمنين من الأطفال والشيوخ والنساء. وربما يكون ذاك الدرسُ الصعبُ هو السبب في دخولى في معارك ومحن لا أول لها ولا آخر، ومازالت سببًا في تكدير حياتى من قِبَل المتطرفين الذين لا يرون في الحياة إلا أنفسهم، ولا يريدون أن يحيا سواهم.

ذلك الدرسُ النفيس تعلّمته من أبى المتصوّف الجميل، وتأكد لى من حوار قيّم قرأتُه دار بين عالِم لاهوت مسيحىّ برازيلىّ اسمه: «ليوناردو بوف»، وبين «دلاى لاما» رقم ١٤: «تنزين جياتسو»، الراهب البوذى والقائد الدينى الأعلى لبوذية التّبت. أقدم لكم الحوار القيم دون أن أفعل أكثر من ترجمة عن الإنجليزية، وفقط. ذاك أن في قراءته، وتأمُّل دلالاته، وحسب، تكمن الفكرة، ويُشرحُ الدرس الذي أرى فيه منجاةً للبشرية مما نعانيه اليوم من ويل ودمار وخراب.

يقول «بوف»: في نقاش مائدة مستديرة جمعت بينى وبين دلاى لاما، حول العقيدة والأخلاق، سألتُ لاما، في اهتمام حقيقىّ:

- يا قداستك، أىُّ العقائدِ الأفضلُ؟.

وظننتُ أنه سيقول: «بوذية التِّبت»، أو «الديانات الشرقية التي هي أقدم كثيرًا من المسيحية». على أن دلاى لاما صمتَ قليلًا، ثم ابتسم، ونظر إلىَّ في عينى مباشرة، وهو ما أدهشنى، إذ كنت أدركُ أن شيئًا من المكر مخبأ في سؤالى. ثم قال:

- «العقيدةُ الأفضلُ هي تلك التي تجعلك أقربَ إلى الله. هي تلك التي تجعلك شخصًا أفضلَ».

ولكى أخرج من حرجى، الذي سببته تلك الإجابةُ الحكيمة، سألُته:

- «وما هي تلك العقيدة التي تجعلُ الإنسانَ أفضل؟»، فأجاب:

- «تلك التي تجعلك: أكثرَ رحمةً، أكثرَ حساسيةً، أكثرَ محبةً، أكثر إنسانيةً، أكثر مسؤوليةً، أكثرَ جمالًا. العقيدةُ التي تفعل معك كل هذا تكون هي الأفضل».

كنتُ صامتًا، مأخوذًا بأعجوبة تلك الإجابة وحكمتها التي لا تُدحَض. وأكمل لاما:

- «لستُ مهتمًّا يا صديقى بعقيدتك، أو ما إذا كنتَ متديّنًا أم لا. الذي يعنينى حقًّا هو سلوكك أمام نفسك، أمام نظرائك، أمام أسرتك، أمام مجتمعك، وأمام العالم. تذكّر أن الكونَ هو صدى أفعالنا وصدى أفكارنا. وأن قانونَ الفعل وردّ الفعل لا يخصُّ علمَ الفيزياء وحسب؛ بل هو أيضًا قانونٌ يحكم علاقاتنا الإنسانية. إذا ما امتثلتُ للخير فسأحصدُ الخيرَ، وإذا ما امتثلتُ للشرّ فلن أحصد إلا شرًّا. ما علّمنا إياه أجدادُنا هو الحقيقةُ الصافية: سوف تجنى دائمًا ما تتمناه للآخرين، فالسعادةُ ليست شيئًا يخصُّ القدر والقسمة والنصيب، بل هي اختيارٌ وقرار».

وفى الأخير قال دلاى لاما:

- «انتبه جيدًا لأفكارك لأنها سوف تتحول إلى كلمات. وانتبه إلى كلماتك لأنها سوف تتحول إلى أفعال. وانتبه إلى أفعالك لأنها سوف تتحول إلى عادات. وانتبه إلى عاداتك لأنها سوف تكوّن شخصيتك، وانتبه جيدًا إلى شخصيتك لأنها سوف تصنع قدَرك، وقدَرُك سوف يصنع حياتك كلّها».

■ ■ ■

انتهى الحوارُ بين الرجلين، وأقول فيه إن القسوة على خلق الله ونكران حق أي إنسان في الحياة لا تدل إلا على فقر عنيف في الإيمان. العقائد قوية وصامدة ليس بالسيف والنسف والعنف والترويع، إنما بديمومة تحضرها وتحضّر معتنقيها ونظافة أرواحهم ومدى استقرار الرحمة داخل قلوبهم. كونوا سفراء جيدين لعقائدكم تضمنوا بقاءها، بدلًا من أن تحملوا سيوفًا تذودون بها عن مقدساتكم كأنها هزيلة تحتاج إلى مَن يسندها. لا تكونوا عكازات لعقائدكم، بل كونوا مرايا طيبة تعكس نصاعة إيمانكم وطهارة عقائدكم وسموّ أفكاركم. العالمُ بأسره بحاجة إلى وقفة جماعية ننظرُ فيها إلى وجه الله الرحمن الرحيم

 

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غيابُ الرحمة عن وجه العالم غيابُ الرحمة عن وجه العالم



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 19:13 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 عمان اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 18:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 عمان اليوم - مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:01 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الاسد

GMT 21:16 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab