«السَّعفُ» حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ
أخر الأخبار

«السَّعفُ»... حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ

«السَّعفُ»... حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ

 عمان اليوم -

«السَّعفُ» حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ

بقلم: فاطمة ناعوت

مثلما النخلةُ لا تُثمر إلا إذا عانقتِ الشمسَ، كذلك القلبُ لا يُورق إلا إذا مسّته خُضرةُ السلام وأكسجينُ الحبّ. أكتبُ لكم هذا المقال بعدما انتهيتُ من جدل بعض الأشكال الجميلة مع ابنى «عمر» من سعف النخيل مع صديقاتى المسيحيات وأطفالهن؛ احتفالًا بـ«أحد السعف» بالأمس. عيدٌ يعيدُ إلينا طفولتَنا، ويعيدُنا إلى براءتها. يأتى ذلك «الأحدُ» بلطفٍ أخضرَ، لا يطرقُ البابَ، ولا يُحدث جلبةً، لكنه يملأ الشوارع بوهج الذهب، وضحكات أطفالٍ يحملون السعف بأكفّهم الصغيرة، كأنما يقبضون على حفنة فرح. طقسٌ يحمل رائحة الطين، وهمسات الجدّات فى باحات البيوت. فى طفولتنا، كنّا نشترى عيدان السعف من الباعة حول المدرسة، ونتسابق فى جدلها لنصنع أشكالًا جميلة، ونظلُّ نرقبُها حتى تجفَّ ويتحوّلَ أخضرُها إلى أصفر الذهبِ يُشِعُّ بريقُه فى قلوبنا الخضراء. نُهدى صنعةَ أيدينا إلى أمهاتنا ومعلّماتنا: تاجٌ، سوارٌ، خاتمٌ، كتابٌ، أوراق شجر، قلبٌ، حملٌ، سنبلة قمح... كنتُ، ومازلتُ، أراه خيطًا سريًا بينى وبين الأرض. جديلة سلام، نُشكّلها بأنامل بريئة، ثم نعلّقها على الأبواب أو نهديها لمن نحب، كأننا نجدل مشاعرنا بخيوط النخيل. ومهما كبرنا وكبرت همومنا وتشعبت مشاغلنا، إلا أننى أتوق لجدل السعف، كأنما ورثت هذا الطقس عن جدّات قديمات لا أعرف أسماءهن، لكننى أعرف أنهن جدلن السعف فى باحات البيوت، وأضفن إلى عيد الشعانين نكهة مصرية بطعم النيل ورائحة الطمى وطعم الخُضرة. هذا هو الوطن وفلسفته: نحتفل معًا، ونُحب معًا، ونُشكّل من سعفةٍ صغيرةٍ إعلانًا ناعمًا أن مصر بخير.

«المجدُ لله فى الأعالى، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة». سعفُ النخيل ليس رمزًا دينيًا فقط، بل مفردةٌ فى معجم مصر. مَن يتأمل نقوش المعابد القديمة يرى النخلة مُقدّسة فى حضارتنا، رشيقةً وكريمة، تعطى ولا تأخذ. لهذا أحبها الجدُّ المصرى وتبارك بها. فى النخيل شىءٌ يُشبهنا: صبرٌ مُتعالٍ، وجذرٌ لا يتخلى عن الأرض.

«أحد السعف» هو «الأحد» السابقُ لعيد القيامة المجيد. اليوم الذى دخل فيه السيدُ المسيح مدينةَ «القدس»، فاستقبله أهلُها بالأناشيد وأغصان الزيتون، وفرشوا ثيابَهم تحت قدميه الشريفتين ليسير عليها مُكلّلاً بالمحبة والنصر، كما يليق برسول السلام الذى جاء ليعلّم البشرَ كيف يغفرون للمُسىء ويُحبّون العدوَّ، وإن آذاهم، فيتضامنون معه ضدّ عدو البشرية الأوحد: الشرّ.

فى مصر، يغدو العيدُ مناسبة وطنية تحتفى بالحياة. النخيلُ فى الوجدان المصرى رمزٌ للخلود والوفرة، فظهرت فى النقوش الفرعونية والجداريات. وبعد دخول المسيحية ثم الإسلام، ظلّت النخلةُ فى مخيالنا الشعبى رمزًا للطمأنينة والجمال. وهكذا، فحين يحمل المصرى سعفة مُضفّرة، فإنه يُحيى تقليدًا ضاربًا فى جذور التاريخ، يربط النخلة بالسلام، ويُحوّل السعف إلى رسالة حب، تختصر جوهر الأديان فى كلمة واحدة: السلام. فالمصريون بطبعهم يحبون المناسبات التى تحمل طابعًا بصريًا ملموسًا. والسعف، بخضرته، وجدائله، وجمال رمزيّته، يجعل العيد «مرئيًّا» حتى لمن لا يعرف أصل قصته وفلسفته.

أصدقاؤنا المسيحيون يصومون خمسة وخمسين يومًا حتى عشية «عيد القيامة المجيد» الأحد القادم. يرفعون أياديهم للسماء ضارعين بالدعاء لكى يحمى اللهُ مصرَ ونيلَ مصرَ وشعبَ مصرَ من كل شرّ، مثلما ندعو لها فى صلواتنا وتهجّدنا. يدعون أن يعُمَّ الخيرُ جميعَ البشر، ثم يدعون بالغفران لمن أساء إليهم، بالقول أو بالفعل، لأنهم موقنون أن غفرانهم للمسىء شرطٌ لغفران الله للبشر: «واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا»، يقولونها وهم يتذكرون السيدَ المسيح، عليه السلام، سائرًا على طريق الآلام رافعَ الرأس عزيزَ النفس، من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة، فى مثل هذا الأسبوع منذ ألفى عام، حاملاً صليبَه الخشبى الهائل، وحاملاً آلامَه وجراحه ودماءه الطاهرة ورجاءه فى خلاص البشر من شرور العالم، واضعًا إكليلَ الشوك على جبينه الوضىء النقى من الدنس، يقطرُ منه الدمُ الشريف. وحين ظمِئ، قدّم له جندُ اليهود والرومان كأس الخلّ كى تخفَّ آلامه قليلًا، لكنه رفض أن يرتشفه لكى يتجرّعَ الألمَ إلى مُنتهاه، لقاءَ قوله الحقَّ فى وجه سلطان جائر. ثم قام المسيحُ بمواساة المريمات وصبايا أورشليم اللواتى كنّ ينتحبن من أجل آلامه، طالبًا إليهن أن يبكين على أنفسهن لا عليه.

مصرُ التى تجدل السعف كل عام، لا تعرف الكراهية. مصرُ التى تُضفّر من ورق النخيل ورودًا وسلالاً، قادرة على أن تصنع من آلامها أملًا، ومن أزماتها سلامًا، ومن اختلافاتها تنوّعًا أنيقًا لا يُقصى. إنها مصر. تمرُّ عليها مواسمُ من الجفاف، لكنها تعرفُ جيدًا كيف تدوس على المحن وتعود فتورق، وتُثمر، وتُدهش العالم بتماسكها وقوتها وحبها للحياة. كل عام ومصرُ جميلةٌ بشعبها، وصومًا مقبولًا لأشقائنا المسحيين، الذين يستقبلون أسبوعَ الآلام استعدادًا لعيد القيامة المجيد، كل عام وهم نخلةُ المحبة المورقة فى أرض مصر.

 

omantoday

GMT 20:15 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

ثلاثة مسارات كبرى تقرّر مستقبل الشّرق الأوسط

GMT 20:12 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

لا تعزية حيث لا عزاء

GMT 20:11 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

حطب الخرائط ووليمة التفاوض

GMT 20:10 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

خرافات العوامّ... أمس واليوم

GMT 20:08 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

لماذا فشلت أوسلو ويفشل وقف إطلاق النار؟

GMT 20:08 2025 الإثنين ,14 إبريل / نيسان

الخصوصية اللبنانية وتدوير الطروحات المستهلكة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«السَّعفُ» حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ «السَّعفُ» حين يغدو الوطنُ جديلةَ حُبٍّ



تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 19:07 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 10:16 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

حاذر ارتكاب الأخطاء والوقوع ضحيّة بعض المغرضين
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab