طارق الحميد
ودع العالم كله الزعيم نيلسون مانديلا صاحب أروع قصص التضحية، والقيادة، في مواجهته الطويلة لنظام الفصل العنصري المقيت في جنوب أفريقيا إبان حكم الأقلية البيضاء. فمن سجين لأكثر من خمسة وعشرين عاما في سجون العنصرية إلى زعيم فذ، ورمز عالمي للمصالحة والتعايش السلمي.
ووداع مانديلا اليوم يعيد التذكير بقصة زعيم ناضل مطولا من أجل الحرية والسلام، وأفنى سنين عمره في السجن، ذائقا الويلات بحثا عن الوطن الحلم، والذي عندما تحقق له لم يحتفظ بالسلطة، ولا الحكم، ولم يتحول إلى «زعيم خالد»، بل دعا للتسامح، وكرس السلام، وأدى مانديلا حينها فترته الرئاسية ليعود بعدها إلى منزله وسط عائلته، ويفارق الحياة عن خمسة وتسعين سنة، ليس كرئيس سابق، بل زعيم ملهم، تروى قصته وتدرس في حكمة القيادة، وكرمز للتعايش والمصالحة، ومثال لرجل لم تأسره السلطة. وهذه هي عظمة قصة هذا الرجل التاريخي دون شك. والقصة بالطبع هنا ليست قصة نعي زعيم، بل هي لأخذ الدروس والعبر في منطقتنا الآن، خصوصا أن اسم مانديلا قد تردد مطولا في السنوات الثلاث الأخيرة، وتحديدا فيما يسمى «الربيع العربي»، وأقدم من ذلك.
وهنا نتساءل، وخصوصا في الخمسين سنة الماضية وللآن: ماذا لو كان لدى الفلسطينيين زعيم يقود نضالهم مثل الزعيم مانديلا؟ فكيف كان سيكون حال الفلسطينيين اليوم، بل كيف كان سيكون شكل المنطقة برمتها؟ هل كانت ستضيع الفرص؟ وهل كانت ستطول معاناة هذه الأجيال، ويتكرس الانقسام الفلسطيني، وتقضي المنطقة سنينا من هذا الصراع الذي أحرق فرص التعايش، وأضاع كل فرص البناء لمستقبل أفضل؟ ماذا لو كان لدى الإيرانيين مانديلا آخر، مثلا، وليس الخميني، أو خامنئي.. كيف كان سيكون حال إيران والإيرانيين اليوم؟ وكيف يمكن أن يكون شكل المنطقة برمتها مع زعيم ملهم يدعو للتعايش وليس زعامة تدعي حق الإرشاد مدى الحياة؟ ما هو حال إيران الداخلي وقتها، وكيف كانت ستكون مكانة إيران الدولية، بل وفي المنطقة، لو أن لديها مانديلا الإيراني الذي لا يبحث عن زعامة أبدية، أو دور وهمي لا يمكن تحقيقه طال الزمان أم قصر؟ كيف كانت ستكون إيران مع مانديلا التعايش، وليس زعامات الطائفية، والأوهام؟
والأمر نفسه عربيا، كيف كان سيكون حال مانديلا السوري، أو المصري، أو التونسي، أو الليبي، فهل كان «الربيع العربي»، وبوجود مانديلا عربي، سيقود إلى التشرذم، والاستئثار بالسلطة، وكل هذه الدماء، حيث أسقط الديكتاتور الفرد، وصعدت ديكتاتورية الجماعة، والآيديولوجيا، وأول ما هدد، وأسقط، الدولة، مع تحطيم النسيج الاجتماعي، وتعقيد أحوال تلك الدول، والمنطقة ككل، وجعل واقع تلك الدول أسوأ من ماضيها حيث لم يخرج لنا مانديلا يؤثر التعايش السلمي، وإنما جماعات تريد تكريس ديكتاتورية الجماعة، والاستئثار بالسلطة. ولذا فإننا نودع اليوم الزعيم مانديلا متمنين لو كان بمنطقتنا الآن مانديلا آخر في هذه المرحلة الصعبة التي تهدد دول «الربيع العربي».