بقلم : هدى الحسيني
تقع السياسة الخارجية للهند على مفترق طرق في أفغانستان. إلى حد كبير، ارتكبت الهند خطأ، كما فعلت الكثير من القوى الغربية، فقد وضعت ثقتها بحكومة أشرف غني، بينما قدم منافسون مثل الصين وباكستان مبادرات تجاه «طالبان»، وهم الآن متأكدون من تعزيز مصالحهم والتأثير على البلاد.
ضمن الألغام التي زرعها الأميركي قبل انسحابه من أفغانستان تأجيج الصراع القديم الدائم بين باكستان والهند، هذه المرة تنافُساً على سد الفراغ الذي خلّفه الانسحاب. فباكستان تعد «طالبان» حليفاً استراتيجياً (حتى ولو لم تعترف بعد بالحكومة الحالية)، لم تتخلَّ عنها في أوج الاحتلال الأميركي وقد سعت جاهدة للوصول إلى اتفاق أميركي مع «طالبان» وتنتظر اليوم قطف ثمار عودة «طالبان» إلى حكم أفغانستان بالكامل، وتجد فيه فرصة مناسبه لمجموعة من الأهداف من ضمنها عزل الهند وتهميش دورها المتعاظم في المنطقة والعالم. أما الهند فكانت ولا تزال تعارض عودة «طالبان» إلى الحكم، وتدعم اتحاد الشمال في منطقة بنجشير، وهي المنطقة الأفغانية الوحيدة التي لا تزال تصارع سيطرة «طالبان»، والتي لجأ إليها عدد كبير من الجيش الأفغاني الموالي لحكومة أشرف غني السابقة. والمرجح أن تستمر نيودلهي في دعم اتحاد الشمال المعادي لـ«طالبان»، بينما ستقوم باكستان بمؤازرة حلفائها الأفغان بكل ما تملك من إمكانيات، وسيصبح الصراع بين القوتين النوويتين غير مباشر على التراب الأفغاني.
ولكن إلى جانب خطر تجدد الصراع التاريخي بين باكستان والهند، هناك استثمارات الهند خلال السنوات العشرين الماضية في أفغانستان، وهي معرّضة للضياع بالكامل بعد عودة «طالبان» إلى حكم البلاد، فاقت قيمتها 15 مليار دولار، من ضمنها بناء ميناء شاهنبهار في إيران بتكلفة 8 مليارات دولار بعد الحصول على الموافقة الأميركية الاستثنائية لتجاوز قانون مقاطعة إيران، وسعت الهند من خلال المشروع إلى ربط بلاد فارس بأفغانستان من دون المرور بباكستان، ومن ثم الربط بشبكة طرق داخلية في كامل أنحاء البلاد. ودخلت الهند في كونسورتيوم دولي لبناء خط سكة حديد طوله أكثر من 5000 كلم يصل أفغانستان بأوروبا، وأسهمت ببناء سد سلمى على طول الحدود الإيرانية ومبنى البرلمان الأفغاني بتكلفة 90 مليون دولار، وكان من المفترض أن يرمز إلى انتقال أفغانستان إلى الديمقراطية، وحضر حفل تدشينه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، إلى جانب الرئيس الأفغاني أشرف غني، عام 2015، كما بنت مستشفيات ومدارس وسدوداً وأبنية عامة.
لقد ضاعت هذه الاستثمارات مع وصول «طالبان» إلى السلطة، واحتلالها للمقاعد ذاتها التي كانت الهند تأمل في أن تدفع أفغانستان أكثر نحو الديمقراطية. في حين أن أفغانستان غير الساحلية لها جذور ثقافية وتاريخية عميقة مع الهند، إلا أن هناك تداعيات أمنية مباشرة وغير مباشرة تجب مراعاتها. يمكن لباكستان، على سبيل المثال، استغلال الممر الممتد من أفغانستان إلى خط السيطرة الهندي، عبر الحدود الهشة في كشمير. لدى الهند الآن الكثير لتقلق بشأنه. عندما تولت «طالبان» السلطة في السابق من 1996 - 2001، أطلق النظام العنان لمجموعة من المنظمات المتشددة المناهضة للهند مثل «اشقري طيبا» و«جيش محمد» داخل أفغانستان لإعادة تجميع صفوفها، وتدريبها، ومن ثم إحداث فوضى في كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، والتي تحمل ندوب التمرد المستمر منذ فترة طويلة. كما يجلب استيلاء «طالبان» على السلطة فوائد محتملة لباكستان، التي قد تحاول نقل معسكرات المتشددين من مناطقها الغربية عبر الحدود إلى أفغانستان فتستطيع الخروج جزئياً من رقابة مجموعة العمل المالي.
لقد أضرَت إضافة باكستان إلى «القائمة الرمادية» بمنعها من الحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي وآليات التمويل الدولية الأخرى.
إن مساعدات التنمية التي تقدمها الهند، والتي كانت أحد أهم المانحين لأفغانستان على مدى الأعوام العشرين الماضية، أصبحت الآن أيضاً في خطر شديد. قدمت نيودلهي، إضافة إلى ما تقدم، منحاً دراسية للطلاب الأفغان، وقدمت مساعدات غذائية، وساعدت في تحديث شبكة الكهرباء التي دمّرتها الحرب في أفغانستان. إلا أنه قد يكون هناك سبب للتفاؤل الحذر بشأن الاستيلاء، حيث دعت «طالبان» الهند لمواصلة الاستثمار في أفغانستان. القلق الآن هو هيكل الحكومة الجديدة الموعودة والتي تحدّث عنها عمران خان رئيس وزراء باكستان، إلى (بي بي سي) يوم الثلاثاء الماضي، بقيادة «طالبان»، والتي ستعتمد بالتأكيد بشدة على الصين المنافسة للحصول على المساعدة الاقتصادية. لن يكون مدى احتضان «طالبان» للهند واضحاً لعدة أشهر، حيث لا تزال الترتيبات الثنائية والمتعددة الأطراف تتطور. في حين أن شركاء الهند في مجموعة «كواد» الرباعية، اليابان وأستراليا والولايات المتحدة، لم يعطوا سوى القليل من المؤشرات على أنهم سيعطون «طالبان» الجديدة الشرعية الخارجية المرغوبة بشدة.
إن المبادرات من باكستان والصين قد تؤدي إلى كارثة أمنية للهند في الشمال، حيث يمكن للعناصر المتشددة أن تجد حرية الوصول إلى المناطق المتنازع عليها مع الهند داخل باكستان. وعلى سبيل المثال، أشارت حركة «طالبان» مؤخراً إلى أنه يحق لها، كونها مسلمة «رفع صوتنا للمسلمين في كشمير والهند وأي دولة أخرى». ودفع ذلك الهند إلى الموافقة على أول اتصال دبلوماسي رسمي لها مع «طالبان»، من خلال السفير الهندي لدى قطر ديباك ميتال. بالإضافة إلى ذلك، أشار نيلام إرشاد، حاكم كشمير الباكستانية، إلى أن «طالبان» ستساعد في «تحرير» كشمير من الهند.
إن حرص الصين على العمل مع «طالبان» يمكن أن يضيف بشكل كبير إلى مشكلات مخططي الأمن الهنود، مما يضاعف المخاوف الأمنية على طول خط السيطرة الفعلية، الذي يرسم الحدود الهندية من الأراضي الصينية في النزاع الحدودي الصيني الهندي، الممتد من لاداخ على طول الطريق إلى أروناتشال براديش. وقد تجبر الاشتباكات الأخيرة مع الصين على طول الحدود، بالإضافة إلى الضغط المتزايد في منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي، الهند على تغيير ترتيباتها الأمنية بشكل كبير، مع استمرار المخاوف من أن الهند، في الفراغ الذي خلّفه رحيل الولايات المتحدة، ستصبح خط المواجهة في ساحة المعركة ضد الإرهاب العابر للحدود...
في أوائل أغسطس (آب)، سيطرت «طالبان» على الجسر الأفغاني الهندي (سد سلمى سابقاً) في هجوم، وكذلك العاصمة الإقليمية زارانج، التي تتصل بميناء تشابهار في إيران. وقد أظهرت هذه الخسائر، إلى جانب الاستيلاء على طائرة عسكرية أهدتها الهند للجيش الأفغاني، فشل استراتيجية الهند في أفغانستان. لكن على المدى الطويل، هناك قرارات يجب اتخاذها من شأنها أن تدفع استراتيجية الهند الأفغانية إلى المضيّ قدماً. أولاً، إن إضفاء الشرعية على «طالبان»، كما فعلت الصين وروسيا وباكستان مؤخراً، يمكن أن يسبب صداعاً لكفاح الهند طويل الأمد للدفع بالاتفاقية الشاملة ضد الإرهاب. لقد اقترح الأمين العام للأمم المتحدة على مجلس الأمن عدم الاعتراف بالحكومات التي تحصل على السلطة بالقوة، ولا يجب الاعتراف بإعلان إمارة إسلامية في أفغانستان.
الآن يمكن أن تتحرك الهند لتحسين العلاقات مع إيران وروسيا، مما يوفر لها فسحة للاحتفاظ بنفوذها في المنطقة من دون الاقتراب مباشرةً من «طالبان». ومع ذلك، لا تتمتع الهند بالرفاهية التي يتمتع بها الغرب في الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات التبادلية مع «طالبان». ولن يؤدي أي اتصال إلا إلى توسيع نفوذ الصين وباكستان، وتفاقم المخاوف الأمنية الإقليمية. وبالتالي، قد تواجه الهند خياراً لا مفر منه للتعامل مباشرةً مع نظام يمكن أن يقوّض موقعها في آسيا الوسطى.
في خمسينات القرن الماضي وإلى ما بعد الاجتياح الأميركي لأفغانستان والعراق، كان الفكر السائد لأصحاب القرار ومراكز الفكر الأميركي تغليب نظرية الدومينو، التي تبناها هنري كيسنجر، وهي ببساطة تقول إن انهيار إحدى الدول تحت ضغط آيديولوجي معين في منطقة ما، سيؤدي إلى تساقط مجموعة من دول هذه المنطقة، تماماً كتساقط أحجار الدومينو، ولهذا يتوجب على الولايات المتحدة التدخل عسكرياً وبجميع الوسائل المتاحة، لمنع ذلك، إذا كان يتعارض مع المصالح الأميركية. في حينها كان الأمر يتعلق بالمد الشيوعي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضربات 11 سبتمبر (أيلول) انتقل إلى المد الأصولي. إلا أن تصاعد فكر المحافظين الجدد غيّر نظرية الدومينو وسادت في الولايات المتحدة نظرية الفوضى الخلاقة التي تقول إن الحرب ليست بالقتال العسكري فقط ولدى الولايات المتحدة سلاح أشد فاعلية وفتكاً وأقل تكلفة وهو المال والاقتصاد، فبفرض الحصار المالي على الدول والأشخاص والعقوبات الباهظة على كل مَن يكسر هذا الحصار، تستطيع الدولة الأقوى في العالم تركيع أي دولة مناهضة لها، من دون أن يطأ أي جندي أميركي أرض تلك الدولة، ومن ضمن فكر الفوضى الخلاقة، إلى جانب سلاح العقوبات، تسعى الولايات المتحدة لنصب الأفخاخ والقنابل الموقوتة التي تصيب كل مَن ينافسها ويعاديها، ويعرّض مصالحها للخطر، وتبقى هي تتفرج عليهم يتخبطون في فوضى هي خلاقة فقط للولايات المتحدة. وليس أوضح مثالاً على هذا الفكر من الذي حصل في أفغانستان.