مأمون فندي
زيارة رئيس المخابرات السعودي لمصر، حاملا رسالة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى كل من رئيس مصر عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، معلنا عن مشروع الملك عبد الله لترميم الأزهر الشريف، أقدم جامعة في العالم ومركز إشعاع للدراسات الإسلامية ووسطية الإسلام، هي مبادرة في وقتها؛ فالأزهر بالفعل يحتاج إلى ترميم مبانيه العتيقة التي بنيت منذ ألف عام. ومباني الأزهر الشريف هي مبان أثرية لأقدم جامعة في العالم تحتاج الرعاية بما يليق بهذا الصرح الحضاري وتلك المنارة العلمية. وتأتي الزيارة السعودية بعد زيارة مهمة لولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد إلى الأزهر الشريف، والتي أكدت أيضا على دور الأزهر في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن ديننا الحنيف الذي حولته السوقة وجماعات التطرف إلى دين عنيف. الشيخ محمد بن زايد أكد أيضا على دعم الإمارات للأزهر من أجل نشر وسطية واعتدال الدين الإسلامي. الأزهر بالفعل يحتاج إلى دعم من أجل ترميم المباني، ولكن الرسالة الأهم هي رسالة الترميم بمعناها الواسع، أي أن الأزهر لا يحتاج فقط إلى ترميم المباني بل ترميم الأفكار وترميم المناهج وترميم طرق التدريس فيه، لكي يخرّج لنا علماء مستنيرين لديهم من الأدوات ما يؤهلهم كي ينافسوا مع أعظم كليات اللاهوت في العالم.
شيخ الأزهر الجليل، فضيلة الإمام أحمد الطيب، ربما من أول من يدركون أن الأزهر كمؤسسة علمية يحتاج إلى ترميم وإعادة هيكلة من ناحية المناهج وطرق البحث العلمي وطرق التدريس، فخريج الأزهر اليوم يحتاج إلى إعادة بناء وإعادة تأهيل. وأرجو ألا أُفهم خطأ، فظني أن الأزهر، وخصوصا في كلياته العلمية، ربما في بنيته أفضل بمراحل من بقية الجامعات المصرية، ليس لأن مخرجاته أفضل، ولكن لأن البناء المعرفي للخريجين من الممكن أن يكون هو الأفضل في المنطقة لو طور على غرار كليات الغرب المتميزة، ودعني أشرح الفكرة من خلال خبرتي كأستاذ في الجامعات الغربية، وكيف لما هو موجود في الغرب كنموذج أن يساعد في ترميم الأزهر.
في الجامعات الغربية، ليس كجامعاتنا، ينهي طالب الطب أو الهندسة دراسته الجامعية ليس كمتخصص ضيق الأفق كما نظن نحن هنا في عالمنا العربي. بداية طالب الطب أو الهندسة أو الحقوق ينهي دراسته على مرحلتين؛ المرحلة الأولى هي كليات الليبرال آرتس (liberal arts) يدرس أربعة أعوام في كلية العلوم والتي معها أيضا يدرس ما يسمى الكورسات الأساسية مثل أسس الفلسفة واللاهوت، وكذلك كورس في فلسفة العلوم، وقد يدرس تاريخ الفنون وتاريخ الفكر الغربي وتاريخ الموسيقى والعمارة، مضافا إليها المواد العلمية.
وبعد أن ينهي السنوات الأربع المساوية عندنا لدرجة البكالوريوس يتقدم بعدها لكلية الطب التي هي بعد الجامعة وليس قبلها، فليس هناك كلية طب بعد الثانوية في أميركا تحديدا، لذلك يتخرج الطبيب بدرجة دكتور MD المساوية للدكتوراه، ومن هنا يكون الفارق بين طبيبنا وطبيبهم من حيث التأسيس الفكري والعلمي. أما كلية الحقوق فالطالب لا يدخلها إلا بعد أن ينهي درجة البكالوريوس في واحدة من كليات العلوم الإنسانية، مثل كلية العلوم السياسية وفيها أيضا يتعلم الطالب التاريخ الفكري وتاريخ الفلسفة كما الطالب الذي يجهز نفسه لدراسة الطب في المثال السابق. ثم بعدها يتقدم لكلية القانون ويحصل على درجة JD دكتوراه في القانون لكي يمارس المحاماة أو يعمل في سلك القضاء وغالبا ما يتخرج الطالب في سن الثلاثين من هذه الكليات وبهذا كطبيب يكون ناضجا ومسؤولا وكمحام أو قاض يكون قد نضج أيضا، وليس مثل حال عالمنا العربي؛ حيث ترى وكيل النيابة الجديد الذي لا يتجاوز عمرة 24 عاما مليئا بالهرمونات وعدم الاتزان ثم نطلب منه أن يمارس مهمة العدل بين الناس.
ما علاقة ذلك بترميم الأزهر؟
الأزهر أفضل بكثير من الكليات العادية في مصر وخصوصا الكليات العلمية فيه؛ حيث يكون مطلوبا من الطالب أن يكون ملما بالفقه والتفسير وفلسفة اللاهوت والتوحيد والشريعة إلى آخر العلوم الأزهرية وهي مؤهلات طيبة ليصبح الإنسان سويا في حياته العملية، ولكن هذا الشق يحتاج إلى مراجعة وحزم ومنهجية أكثر وإضافة بعض فروع الفلسفة والتاريخ إليها ومعها أيضا علم الأخلاق (ethics) لكي يكون الخريج أكثر تماسكا كإنسان بعد التخرج ويخرج إلى الحياة كداعية ملم وطبيب يعرف معنى الأخلاق في إطار الفلسفة الإسلامية للأخلاق والمسؤولية تجاه الخالق والنفس والمخلوق. الآن خريج الأزهر أفضل من أقرانه في الجامعات الأخرى ولكنّ كليهما بالمقاييس العالمية كارثة تمشي على الأرض لديها شهادة تقول إنها تعلمت، ولكن بعد الشهادة لا شيء آخر يعوّل عليه.
ترميم الأزهر يعني أن يكون خريج الأزهر مثله مثل خريج كليات اللاهوت في إيطاليا أو في جامعة هارفارد وليس أقل. ربما لا يدرك بعضنا أن أفضل طرائق البحث العلمي والمنهجية في العلوم الغربية الحديثة الآن وصلتنا من كليات اللاهوت في الجامعات الغربية العريقة. يجب ألا يكون الأزهر أقل من أي من تلك الجامعات.
عيب أيضا أن يتخرج الطالب من كلية الشريعة والقانون ليصبح قاضيا وهو في عمر أقرب إلى المراهقة منه إلى الحكمة، فلتكن كلية الشريعة والقانون بعد أن يدرس الطالب مثل كلية أصول الدين أو كلية الدراسات الإسلامية ثم بعدها يدخل كلية الشريعة والقانون بعد أن يكتمل نضجه النفسي.
تقسيم الكليات في الأزهر رغم جودته يحتاج إلى إعادة نظر. نعم كل شيء موجود ولكنه ليس بالجودة لا على مستوى الطالب، أو ما يسمى مجازا بالأستاذ الجامعي. لتكن المجلات العلمية في الأزهر مثالا يحتذى به من حيث التحكيم العلمي.
ويمكننا أيضا أن نقترح أن يكون للأزهر كلية للحفريات أو الآثار حيث الآثار الإسلامية وتوثيقها الآن جزء من معركة العالم الإسلامي والعربي الحضارية.
ترميم الأزهر رغم أنه جاء من خادم الحرمين الشريفين كمنحة لترميم الصرح المعماري للأزهر الشريف وبناياته العتيقة، فإن ترميم البناء الفكري للأزهر يجب أن يكون ضمن أولويات القيادات الإسلامية وربما هو همهم الأول، فمعركة مصر الأخيرة بين جماعات الإخوان والدولة لم تكن إلا معركة على روح الأزهر. يجب أن يبقى الأزهر حصن الإسلام الأخير ضد جماعات الجهل والتطرف ولن يكون بوضع الأزهر الحالي. ترميم الأزهر ضرورة إسلامية.