كان العالم العربي في السابق مطمعًا للدول العظمي والإمبراطوريات بهدف حماية مصالحها أحيانا (الولايات المتحدة) أو لتأمين طرق الإمبراطورية (بريطانيا)، أو خلق حالة من توازن القوى في الإقليم، ولكن لم يكن العالم العربي - إلا نادرا - مرتعا لعربدة القوى المتوسطة مثل إيران.
ترى والحرب دائرة في اليمن بهدف أصغر، هو استقرار اليمن، وهدف استراتيجي أكبر هو إعادة إيران إلى حدودها الجيوسياسية، ترى ماذا نحن فاعلون تجاه التمدد الإيراني في بلداننا؟
بداية وقبل أن نحدد ما سنفعله لا بد أن نعرف أسباب هذا التمدد الإيراني. الفضاء العربي ليس فضاء شيعيا مثلا كي نبرّر تمدّد إيران مذهبيا، نعم هناك جيوب شيعية وسط بحر من السنة، ولكن وجودها لا يؤهلها أو يؤهل إيران لهذا التمدد والنفوذ. إذن الحديث عن صراع الشيعة والسنة واستخدام الآيديولوجيا كمبرر لهذا التمدد لا يستقيم والحالة الديموغرافية على ما هي عليه.
التمدد الإيراني أيضا لم يأتِ نتيجة لقوة النظام الإيراني الأخلاقية لتصديره كنموذج من خلال القوة الناعمة ولا نتيجة للقوة العسكرية أو الاقتصادية كما هو الحال اليوم بالنسبة للصين مثلا، كي تسود إيران من منظور القوة الصلبة (الاقتصاد والسلاح). إيران دولة لا تبتعد عن اليمن كثيرا من حيث كونها أقرب إلى الدول الفاشلة منها إلى الدول المستقرة، وهذه ليست مبالغة. فالناظر إلى وضع إيران الداخلي ولمؤشرات الاقتصاد الإيراني يتفق مع هذه الملاحظة. إيران دولة مترهلة منذ ثورة الخميني 1979 وتعيش على نظرية العجلة أو البايسكل، بمعنى أنه على من يركب العجلة الإيرانية (الدولة) أن يبدل بين قدميه طوال الوقت لتصدير الثورة، وإذا ما توقف سقط من على العجلة، وسقطت معه العجلة، أي سقطت الدولة وسقط نظام الملالي. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أن نفسر نفوذ إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان؟
الإجابة تكمن في أن التمدد الإيراني ليس نتيجة قوة إيران، وإنما نتيجة لوهن دول الجوار. بمعنى آخر إن الضعف العربي وحسب نظرية المكنسة الكهربائية، هو الذي شفط إيران إلى منطقتنا، انهيار الدولة في العراق دونما تدخل عربي لملء الفراغ، جعل إيران هي من يملأ الفراغ في العراق وفي سوريا وفي اليمن وحتى في لبنان.
إذن لكي يكون للحرب في اليمن معنى، لا بد وأن تكون جزءا من استراتيجية أكبر لاستعادة العرب السيطرة على بلدانهم، من العراق إلى سوريا مرورا باليمن حتى لبنان. وبهذا لا أعني فقط مواجهة إيران في مناطق التقاطع والنفوذ، ولكن أيضا إصلاح الخلل الداخلي في المنظومة العربية.
بداية، نحن لدينا ما يقرب من نصف العالم العربي إما دول فشلت بالفعل مثل ليبيا وسوريا، أو في طريقها للفشل مثل السودان واليمن.
لكي نرمم هذا الوضع نحتاج إلى مؤتمر عربي يشبه المؤتمر الغربي، الذي أوصلنا إلى معاهدة وستفاليا، وحدد فكرة الدولة الوطنية. نحتاج في العالم العربي اليوم إلى مؤتمر عربي جاد لا يضبط الوضع في اليمن فقط، وإنما في سوريا والعراق وليبيا، لأن العالم العربي لا يستطيع أن يتحمل كل هذه الدول الفاشلة مرة واحدة، الدول الفاشلة معدية مثل كل الأمراض القاتلة مثل الإيدز، تأخذ معها الدول السليمة في طريقها تدريجيا لمجرد الاختلاط بها في علاقات غير محسوبة ودون وقاية.
كتبت هنا من قبل مقالا حول «كم من الدول الفاشلة يستطيع الإقليم أن يتحملها؟» وكان في المقال استشراف لتدخل عسكري في اليمن. أما اليوم وقد اتسعت الرقعة على الراتق، فنحن نحتاج إلى توجه استراتيجي جديد وتفكير جديد.
يحسب للمملكة العربية السعودية أنها قررت القيادة في شأن اليمن، ولكن اليمن ليس الدولة العربية الوحيدة المريضة، اليمن عرض لمرض أكبر يتمدد من ليبيا حتى لبنان، مرورا بالعراق وسوريا.
قبل أي مواجهة محتملة مع إيران، وهي قادمة لا محالة، لا بد من ضبط الوضع العربي أولا. وهذا يتطلب منظورين أحدهما عسكري يفكر في المنطقة العربية كمسرح عمليات موحد.
الطرح الذي قام به الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتكوين قوة عربية مشتركة، بداية صحيحة في هذا الاتجاه، ولكنه طرح يحتاج إلى تصور مسرح عمليات هذه القوة ومحدداتها.
في التخطيط الاستراتيجي في معظم قيادات الأركان في العالم، لا بد أن يكون هناك تصور في الأدراج يتعامل مع هذه القضايا، ولكن يبدو أن ذلك غير موجود عندنا، وإن كان موجودا فينقصه التنسيق بين الدول العربية المختلفة.
الشق الثاني لترميم الوضع العربي هو شق سياسي يخص بناء الثقة بين أنظمة مختلفة؛ مثل ملكيات ذات خصوصية حضارية في الخليج، وممالك بنظام مختلف مثل الأردن والمغرب، وجمهوريات مثل مصر والسودان وتونس، ليس بينها رابط. وأضرب مثالا على مسألة بناء الثقة والنفع المتبادل بتدخل المصريين في اليمن، مقابل تدخل الخليج مع مصر في ليبيا، هذا السؤال وحتى الآن لم يجد إجابة تبعث على الثقة.
ليس الهدف من المقال هو تفصيل أو أمثلة من هذا النوع، ولكن الهدف هو التأكيد على أن تمدد إيران في منطقتنا لم يتأتَ نتيجة قوة إيران، ولكن نتيجة للضعف العربي، وأن أي قوة مغامرة، كانت ستوجد إلى جوارنا لو لم تكن هناك دولة اسمها إيران لاستغلت حالة الوهن العربية بالطريقة نفسها مثلما فعلت إيران وربما بطريقة أقل فجاجة.
إذن ترميم حالة الوهن تأتي قبل المواجهات العسكرية. أما والحرب قد دارت رحاها في اليمن، فليس أمام العرب سوى نجاح تلك الحرب ليس كحرب اليمن، وإنما كجزء من استراتيجية أكبر لإنقاذ العالم العربي من حالة فشل عام يؤدي بالمنطقة إلى ما يشبه الغيبوبة الكبدية عند الأفراد.
الحرب في اليمن يجب أن تكون جزءا من استراتيجية أكبر تشمل ليبيا وسوريا والعراق إضافة إلى اليمن. يقولون في الأمثال «من كبر الحجر ما رمى» وإن فكرة الاستراتيجية الأكبر تعنى «اللااستراتيجية»، هذا ليس صحيحا على إطلاقه. إعادة التفكير في مفهوم الحرب في اليمن بمفهوم استراتيجي أوسع، هو البداية الصحيحة للتعامل مع إيران، أما دخول اليمن بذاتها ولذاتها من دون ربطها بالقضايا الأخرى، فهذه وصفة لمزيد من التدخلات الخارجية للقوى المتوسطة من باكستان إلى تركيا إلى إيران.
العرب يحتاجون مؤتمرا جادا لجمع كل العقود العربية، حتى لو كانت متناقضة في الطرح بمناقشة اليمن كجزء من استراتيجية أكبر، للتعاطي مع إيران، وهو الطريق الأسلم والأقرب إلى الحل.
بالطبع إيران مشغولة بملفها النووي مع الغرب، ولكن ما يهمنا كعرب ليس نووي إيران، بل تغلغل إيران في أراضينا. نحتاج إلى تفكير استراتيجي جديد لمواجهة مشكلاتنا قبل مواجهة إيران.
عاصفة الحزم بداية، ولكن مفهوم الحزم لا بد أن ينطبق على كل الدول الفاشلة في العالم العربي.
العالم العربي اليوم في أزمة بنيوية، ولا تحتاج إلى تفكير الهواة، بل تفكير محترفين ممن عرف عنهم الخبرة والتجرد والذكاء والموضوعية للخروج من هذه الأزمة.