دائما ما يطالبنا الإسرائيليون بإنتاج «سادات» آخر لديه جرأة السباحة ضد التيار، لديه الشجاعة والمرونة، كما كتبت «نيويورك تايمز» في نعيها للسادات يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1981. لديه الشجاعة والمرونة ليذهب إلى القدس، ويتحدث إلى الكنيست الإسرائيلي، ويغير وجه التاريخ، ويتحول من ضابط عادي إلى «رجل جبار». ما لا تخطئه عين ولا ينكره التاريخ أن العرب أنتجوا ساداتهم، ولا داعي لسادات آخر من طرف العرب. بعد حروب كثيرة ودماء أكثر تسيل باستمرار وبصورة متقطعة أحيانا، وبشكل موسمي، كما حال حرب غزة الأخيرة، التي تجعل من المنطقة بعبارة الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت، دائرة مغلقة من الجحيم، فإن التحدي اليوم هو أنه جاء الدور على إسرائيل لتنتج ساداتها. سادات إسرائيلي، لديه الشجاعة والمرونة أيضا ليقول: «كفى»، ويحمل نفسه إلى القاهرة أو رام الله أو أي عاصمة عربية معلنا قبوله بمبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة منذ قمة بيروت عام 2002. مبادرة وافق عليها كل العرب، متطرفهم ومعتدلهم، لمقايضة الأرض بالسلام الدائم. وحتى هذه اللحظة لم يظهر في إسرائيل من لديه الجرأة على قبولها. مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز ما زالت قائمة، وكل ما تحتاجه المنطقة هو أن يتحول بنيامين نتنياهو إلى سادات، أي كما كتب السادات في كتابه «البحث عن الذات»، أن يحدث تحول في بنية عقل نتنياهو ونسيجه لينقله من عقلية التكتيك والحروب المتقطعة، من أجل تضييع مزيد من الوقت في «عملية» السلام للهروب من مستحقات السلام. عقل السادات الذي ننشده في شخصية إسرائيلية، سواء نتنياهو أو غيره، يتطلب انقلابا في المفاهيم الإسرائيلية، ليصبح السلام لا العملية هو الهدف. فهل لدى نتنياهو القدرة على إحداث تحولات كبرى في عقله وفي مجتمعه ليعيش العرب والإسرائيليون في سلام؟ السادات، حسب سرده لتاريخه الشخصي، توصل إلى هذه النتيجة عندما كان في سجن انفرادي عام 1949، حيث منحه هذا التأمل القدرة على تغيير مجمل أفكاره، ليحول نفسه من مجرد ضابط مصري عادي إلى بطل أسطوري مادته من تلك القماشة التي يُصنع منها التاريخ، أنا لا أطالب نتنياهو بأن يسجن نفسه من أجل عام من التفكير في عزلة، للتوصل إلى نتيجة مفادها أن السلام، لا العملية، هو طوق النجاة لإسرائيل وجيرانها. الإسرائيليون مطالبون اليوم، كما أنتج العرب ساداتهم في 1977، بأن ينتجوا «سادات» إسرائيليا بعد الحدث بأربعين عاما.
ضد فكرة السادات، عندما يعيد الإسرائيليون، ومعهم بعض الأميركان، الحكاية المكرورة ذاتها؛ بأن إيهود باراك منح ياسر عرفات، في مفاوضات عام 2000، ما يساوي 96 في المائة من الأرض، وأن عرفات (حسب قول كلينتون) رفض التنازل عن 16 مترا تسمح للإسرائيليين بالتنقيب عن آثارهم تحت الأقصى. ضد فكرة السادات؛ اللف والدوران في الطرق الملتوية، حيث سيدعي البعض بأن الإسرائيليين أنتجوا «ساداتهم»، يعنون بذلك حالة إسحق رابين الذي اغتاله متطرف يهودي، كما اغتال متطرف إسلامي السادات، ولربما للسبب ذاته. الحقيقة ومن دون التقليل من جرأة رابين، فإن الفارق بينه وبين السادات واضح، وكما يقولون: النتيجة هي الحكم. وضد فكرة السادات أن تطالب إسرائيل العرب بأن ينتجوا «سادات» آخر. وضد فكرة السادات وجرأته أيضا، أن يقول الإسرائيليون الراغبون في التهرب من استحقاق إنتاج ساداتهم، إن السادات كان لديه شريك في السلام على الضفة الأخرى، والإسرائيليون ما زالوا يبحثون عن شريك عربي. الحقيقة، رغم ما في الحجة من بعض وجاهة، أنها حجة للتهرب من قبل المجتمع الإسرائيلي لإنتاج سادات كامل غير منقوص. السادات انقلاب في المفاهيم وشجاعة وسباحة ضد التيار، وحتى هذه اللحظة إسرائيل لم تنتج هذا الرجل بعد.
ضد السادات أيضا أن يستمرئ البعض الحروب، لأنها تمنحهم فسحة من الوقت للاستمرار في غيهم وتضليل أنفسهم والآخرين.
السادات مفهوم وأسلوب عمل وشجاعة ومرونة لم تحدث في إسرائيل حتى اليوم. يقتربون ممن يشبه السادات، ولكن من دون المخاطرة والتحدي اللذين قبلهما السادات.
انتظار الظروف المواتية للسلام أيضا ضد فكرة السادات، فليس هناك أبدا في تاريخ البشرية ما يمكن تسميته بالظروف الملائمة للسلام. إنه لمن السذاجة أن ينتظر عقلاء الظروف المواتية. تأكدوا من الآن أنه لن تكون الظروف مواتية لسلام عربي إسرائيلي، لا في العالم العربي، ولا في إسرائيل. الظروف المواتية أكذوبة دبلوماسية للهروب من مواجهة إنتاج سادات على الجانب الآخر من الصراع. السادات صنع الظروف المواتية، ودفع الثمن، وأخيرا أدرك الجميع أنه كان على صواب.
فهل إسرائيل قادرة على إنتاج «ساداتها»؟
يتباهى اليهود بقدراتهم الذهنية وأدبهم وفكرهم؛ فهل يستطيع هذا الفكر أن يقدم شجاعة ومرونة ضد المتوارث والمعهود، وضد سجن الخوف القابع في داخلهم، وينقلب على الموروث الثابت من أجل تحولات أكبر، ومن أجل آفاق للتعايش السلمي أكثر رحابة، والقبول بمبادرة السلام العربية كما هي، والتوقيع عليها ليس في البيت الأبيض هذه المرة، بل في عاصمة من عواصم العرب؟
تساءلت في مقال الأسبوع الماضي عما إذا كان الصراع في المنطقة ما زال عربيا إسرائيليا، وأشرت إلى أن حرب 2006 بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني المدعوم إيرانيا، وحرب غزة الأخيرة المدعومة تركيًا وإيرانيًا، كشفتا أن الصراع يتسع، ولم يعد مقتصرا على العرب، وقد يتسع أكثر. ومن هذه الزاوية، وقبل أن تتسع دائرة الصراع إلى خارج العالم العربي، ويبدو اللاعبون غير العرب فيه هم الأهم، تصبح فكرة إنتاج إسرائيل لسادات يقبل بالمبادرة العربية ضرورة ملحة الآن، قبل أن تتسع الرقعة على الراتق سواء أكان عربيا أم إسرائيليا أم حتى أميركيا.
ظهور سادات إسرائيلي أصبح ضرورة إقليمية اليوم، سادات إسرائيلي بالمعنى الكامل، وليس مجرد مظهرية زيارة القدس والجانب الإعلامي والدعائي فيها. مطلوب قبول واضح للمبادرة العربية التي طرحت في بيروت 2002.
ولكي نصدق أن السادات الإسرائيلي ممكن، لا بد من نقاش جاد يحدث في المجتمع الفكري والسياسي والإعلامي الإسرائيلي، يناقش المبادرة العربية بالجدية التي تستحقها.
حتى هذه اللحظة، تراوح النقاش الإسرائيلي للمبادرة العربية بين التجاهل والإهمال، وهذا لا يوحي بأن إسرائيل جادة في العيش بسلام في المنطقة. وحتى يحدث هذا النقاش الجاد الذي يبشر بميلاد «سادات» إسرائيلي، تتأهب المنطقة لمزيد من الحروب الصغيرة التي في يوم من الأيام قد تلتهمها بأكملها.
أمام إسرائيل فرصة تاريخية في حالة السيولة الإقليمية الحادثة أن تنتقل من تكتيك إدارة الصراع إلى حل الصراع. الوصول إلى حل نهائي لهذا الصراع لا يتطلب أن ينتج العالم العربي «سادات» آخر، بل الدور على المجتمع والدولة في إسرائيل أن ينتجا «ساداتهم» بالجرأة والشجاعة والقدرة نفسها على السباحة ضد التيار. السادات الإسرائيلي هو الحل.