بقلم : مأمون فندي
دعوت ذات مرة إلى عروبة ناقصة٬ واليوم أدعو إلى عروبة زائدة٬ فما الذي تغير٬ لتتغير الدعوة؟ الدعوة الأولى كانت ندا ًء للتكامل الاقتصادي العربي٬ والسماح بحركة البشر والبضائع والأموال دونما التركيز على الطلاء الآيديولوجي أو الفكري لكل جماعة أو دولة تسبح في الفضاء الثقافي العربي٬ أي عروبة ناقص الآيديولوجية. فماذا كان جوهر دعوة العروبة الناقصة حينها٬ وما جوهر العروبة الزائدة أو العروبة الأوسع؟ وماذا يعني ذلك للتوجه الاستراتيجي العربي في المرحلة المقبلة؟ وأبدأ بتلخيص ما دعوت إليه من عروبة ناقصة٬ أولا: قلت يومها إن ما أدعو إليه هو قومية عربية ناقصة (minus(٬ أي مشروع قومي عربي دون الخرافات والزخارف التي أدت إلى سقوط القومية العربية بصفتها مشروعاً٬ عندما فشلت في أخذ خصوصية الدولة الوطنية في الاعتبار٬ وتجاوزت الأعراف الدولية. دعوت إلى قومية عربية في مواجهة التحديات الوجودية الآنية مبنية على الاقتصاد والأمن الإقليمي العربي٬ آخذين في الاعتبار الخصوصية الثقافية والسياسية للدول العربية٬ وهنا أركز في مواجهة التهديدات الخارجية وحتى الداخلية٬ من أجل مساعدة كل مرة أخرى على أنها دول٬ يجب احترام أنظمة حكمها وخياراتها المحلية٬ نتشابك مع بعضنا بعضاً
دولة على حدة في تقليل هواجسها الأمنية ومساعدة شعبها على الازدهار والرفاهية. ولمواجهة التحديات الحالية المعقدة التي يفرضها علينا واقع أشبه بحالة حرب السويس عام ٬1956 التي كتبت شهادة وفاة الإمبراطورية البريطانية في المنطقة. أبحث عن خيال استراتيجي جديد متحفز٬ وأنا أنظر إلى التدخلات الإيرانية والإسرائيلية والتركية في بلداننا٬ التي يجب أن نتكاتف من أجل إيقافها.
في طبيعة التحديات الاستراتيجية٬ التي تواجه الفضاء الجيوسياسي العربي من إن حالة ذوبان الجليد بين أميركا وإيران في عهد أوباما كانت تفرض علينا أن نفكر كثيراً قبل دول الجوار غير العربي٬ المتمثلة في إسرائيل وإيران وتركيا من ناحية٬ وطموحات الدول العظمى من ناحية أخرى. إذا كان ذلك هو جوهر دعوة العروبة الناقصة٬ فما جوهر العروبة الزائدة أو الأوسع؟
أحياناً٬ والتركيز على العروبة بصفتها فضا ًء ثقافياً جامعاً كخيمة واسعة ما أعنيه بالعروبة الأوسع هو الابتعاد عن التعريف الضيق للعروبة الذي يأخذ منحى عنصرياً بالعرق أو يظنون ذلك٬ ليشمل من يرون أنهم غير عرب٬ لكنهم ينضوون تحت مظلة الثقافة العربية. ومن تابع آخر أبحاث الجينات التي نشرتها تتسع لمن ليسوا عرباً مجلة «ناشيونال جيوغرافك» الأميركية٬ يدرك أن مسألة العرق ليست بالضرورة بذاك النقاء٬ الذي يظنه من يتصورون أنهم ينتمون إلى سلالة ما أو عرق ما. وهذا أمر لا يخص العرب فقط٬ ولكن يخص كل الأجناس التي تدعي النقاء العرقي.
من التحديات الكبرى التي تواجهنا اليوم هو تحدي إيران ونفوذها الإقليمي٬ وهذا التحدي يجد حله في العروبة الواسعة؛ فقد طرأ على حالة العروبة المغلقة أيام القومية الصحوة٬ حالة تماهي ما بين العروبة والإسلام٬ وكلاهما بالمعنى الضيق: العروبة بمعنى العرق٬ والإسلام بمعنى الإسلام السني٬ العربية ومن بعدها ما سمي اصطلاحاً ٬ بأنهم أقل في العروبة وفقا للمعنيين السابقين٬ ومن هنا جاءت فكرة البحث عن وهذا ما أدخلنا فيما نحن فيه ثقافياً٬ إذ ربما أحس بعض الشيعة العرب في العراق مثلاً حماية٬ وجاء خطاب الغوغائية الإيرانية متفقاً مع هذا المزاج. أنتجت مجتمعاتنا عروبة ضيقة٬ وتبعها تضييق في تعريف من هو المسلم٬ ومن هذا الضيق نفذت إيران إلى عوالمنا.
إن إعادة تعريف العروبة بالمعنى الواسع٬ وكذلك توسيع دائرة الإسلام لهو بداية الحل في أزمات تستفحل في سوريا والعراق أساسها العرق والطائفة. وهذا ينسحب قبل أن يكونوا شيعة. وسلم الأولويات في الهوية الوطنية وطريقة تركيبها هو بداية تلمس الخطأ نحو الحل لهذا على شيعة لبنان والبحرين؛ فهؤلاء عرب ثقافةً وعرقاً بامتياز بالنسبة للدولة الوطنية في العالم العربي.
التحدي الذي أعتبره استراتيجياً والكلام نفسه يقال عن عروبة الإيزيديين ومسيحيي العالم العربي والأشوريين وكذلك اليهود٬ وكثير من الأقليات الذين يمثلون موزاييك أو أرابيسك الحالة الثقافية العربية٬ هؤلاء لن يجدوا انتماءهم لا في التعريف الضيق للعروبة٬ ولا في اختزال الإسلام في انغلاق التفسير الصحوي المتزمت٬ ومن هنا تكون العروبة الواسعة لا العروبة الضيقة هي الفضاء الأرحب٬ الذي يمكن للأقليات أن تتنفس فيه وتذوق من خلاله حلاوة الانتماء والمواطنة.
أرجو ألا يظن البعض أن ما أطرحه الآن هو تركيز على السياق الثقافي للعروبة وتوسيعه٬ دونما اهتمام بالمجال القانوني الذي يعد أساس المواطنة في الدولة الحديثة. يجب أن تعلق على مشبك حضاري متين وواسع يسمح للجميع أن يكونوا جزءاً من هذا الكيان. العروبة الناقصة كنت قانونياً ما أقصده هو أن المواطنة بصفتها أساساً أقصد بها تكامل الأسواق٬ وهي رؤية اقتصادية٬ أما العروبة الأرحب والأوسع والزائدة فهي السياق الثقافي الأوسع الذي يجعل التعاملات الاقتصادية والتجارية جزءاً من التفاعلات الإنسانية العامة دونما التوقف عند العرق والطائفة. ما أحوج العالم العربي إلى نوعي العروبة (العروبة الناقصة والعروبة الأوسع أو الزائدة)٬ بمعنى أننا نحتاج إلى سوق عربية مشتركة ومتكاملة٬ وكذا نحتاج أن نضع هذه السوق ضمن السياق الثقافي الأوسع. بمعنى «القوة الناعمة» (مصطلح الصديق جوزيف ناي) والذي يلومه البعض في العالم العربي لزوم ما يلزم٬ ومن دون فهم أو وعي. العروبة الأوسع تعني الخيمة التي تضم الجميع من عربستان في إيران إلى آشوريي سوريا
أو الكويت وعندما جد الجد لم يستطيعوا إلا التركيز إن الدعوة إلى عروبة كاملة وواسعة لهي الحل في مجتمعات بدأت تضيق الخناق على أنفسها. إن شيعة اليمن مثلاً على عروبتهم. العروبة الأوسع تعني رجاحة العقل والابتعاد عن الانغلاق الثقافي الذي يعد الآفة الأولى للمجتمعات والثقافات. العروبة الأوسع هي الحل
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط