هناك تشابه بين نمو المجتمعات والطهي؛ مجتمعاتنا ما تلبث أن تنضج حتى تأتي قفزة تكنولوجية تحولنا إلى الني لا المطبوخ الناضج. فما إن أمسكنا باللوح للكتابة والانتقال من الحضارة الشفوية إلى المكتوبة٬ حتى جاء الترانزستور وأخذنا مرة أخرى إلى العالم السماعي٬ وقبل أن تبلل الأصوات آذاننا مرة أخرى حتى جاء التلفزيون وأخذنا إلى العالم البصري٬ ثم جاء الكومبيوتر وخلط السمعي بالبصري فلم نعد نتواصل كتابة٬ بل بالفيديوهات القصيرة. مجتمعاتنا لا تنضج كوجبة مطبوخة٬ بل أصبحنا ضحية وقع أحداث كبرى تحدث في بلدان أخرى٬ لتصبح تجربة التنمية عندنا «ني في ني».
بناء الدول وتنميتها تحد كبير٬ ولم يمهل الزمن أوطاننا لنضج تجربتها. الدولة٬ حسب التعريف٬ هي أرض وشعب وحكومة٬ أما الدولة الحديثة فهي أرض ومواطنون وحكومة. ولم يسعفنا الزمن لنقل الناس من حالة القبائل والعائلات والشعوب إلى حالة المواطنة٬ وما ذلك بسوء نية من القائمين على أمورنا٬ ولكن لأننا ضحية لما منا أنه طريق التنمية. فلا بنينا مدنا إنسانية٬ ولا فتحنا شوارع تأخذ في الاعتبار «المدينة العادلة»٬ ما إن نبدأ حتى ندخل في الفوضى هناك٬ لم نراقبه ونحاول تقليده ظنً
ثانية. فالناظر إلى قاهرة إسماعيل باشا٬ وتخطيط وسط البلد في مصر٬ يدرك أنه كانت هناك نية لبناء مدينة حديثة٬ مدينة قادرة على الاستمرار وقابلة للحياة ككائن حي يتنفس وينتج قيمه وثقافته وعاداته التي تمثل الخريطة الوراثية للمدينة٬ ليصبح تكاثرها طبيعًيا. وقبل أن تنضج مصر محمد علي كمجتمع زراعي له مكانه في تقسيم العمل العالمي٬ قرر المصريون دخول عالم الصناعة قبل الأوان٬ وبدل التكاثر الطبيعي للمدينة٬ دخلت القاهرة عالم العلاقات غير الشرعية٬ فتوسعت القاهرة عشوائًيا من أجل عمالة جاءت بها الهجرات من الريف. وما حدث للقاهرة نراه يحدث أمام أعيننا لبعض مدن دول الخليج الحديثة نسبًيا٬ فقبل أن يكتمل تخطيط العواصم والمدن فرضت هجرات العمالة الآسيوية والعربية على معظم مدن الخليج عشوائية الأحياء الفقيرة٬ فكل مدينة أنتجت ما يشبه إمبابة وبولاق الخاصة بها! ومن هنا٬ لم تكتمل غير ناضجة (ني في ني).
المدن الخليجية أي ًضا٬ فأصبحت كما الطهي أي ًضا مدنً المدن ليست مجرد عمران وتخطيط٬ المدن هي نتيجة لتفاعل السياسة مع الاقتصاد المحلي والعالمي. كما في قصة الانتقال المستعجل من عالم الكتابة إلى عالم الترانزستور والشفاهة٬ انتقل جماعتنا من بناء المدينة كجزء من دولة المواطنة وبناء الدولة إلى بناء المدينة التي تلبي احتياجات السوق (بالمصري السوء)٬ أي بدلاً من بناء المتنزهات أو (الباركس) التي يتفاعل فيها المواطنون بلا مقابل مادي٬ وتكون مصنًعا للقيم والحضارة٬ شجعت دولنا على بناء المول التجاري الذي يحل فيها التسوق
أصبحت دولنا تنتج المستهلك لا المواطن. نؤدي حركات لا نعرفها٬ إلا أنها تعكس ماركة عالمية. ولكي يظهر حجم محل التنزه٬ ويصبح الإنسان مستهل ًكا لا مواطنً ا حتى وجدته يرسم
الكارثة جلًيا٬ أروي هذه الملاحظة الصغيرة٬ حيث كنت في الصعيد٬ وتابعت للحظات مباراة كرة قدم بين أطفال صغار٬ وما إن أحرز أحدهم هدفً علامة الصليب الوهمي على صدره كما يفعل رونالدو أو ميسي٬ ليس لأن هؤلاء الأطفال مسيحيون كاثوليك٬ لا٬ بل هم يشجعون ويشاهدون ریال مدريد وبرشلونة٬ هم لا يرون في الصليب الوهمي علامة دينية٬ بل سلو ًكا لكبار اللاعبين٬ وهم يقلدونهم ليس إلا. هذا المثال ينطبق على الساسة وعلى الدول كما ينطبق على الأطفال٬ نقلد ما يحدث في الغرب دونما إدراك لتوطين تجارب الآخرين في بيئتنا وفي عالمنا الذي لم ينضج بعد٬ من حيث بناء الدولة وبناء المواطنة. أدخلنا التطور الاقتصادي إلى إنتاج المستهلك لا المواطن.
ألوم التنفيذيين عندنا٬ حيث يختارون من حولهم أي ًضا من ثقافة الـ«ني في ني». فقد كنت ذات مرة في القاهرة٬ والتقيت أحدهم ممن يناط به فكرة التنسيق الحضاري للقاهرة٬ حيث كان ذلك في عهد السيدة سوزان مبارك٬ سيدة كانت تطمح إلى اعتراف عالمي بمجهوداتها٬ فتستورد كل ما هو موضة في المفاهيم الغربية٬ وكان التنسيق الحضاري إحداها. وأدخلت السيدة مبارك القاهرة في أعمال بعضها جيد وكثير منها سيئ٬ فاهتم التنفيذيون بأماكن وتركوا أماكن أخرى٬ فبدا جسد القاهرة كما جسد الأبرص٬ نقاط بيضاء ومساحات كبيرة بنية وسمراء (والتشبيه هنا لتقريب الفكرة٬ لا تمييزا ضد من يعانون من تغير لون الجلد). وأتمنى ألا يترك القارئ الفكرة الأساسية٬ ويجلس هنا عند هذه النقطة. فالفكرة الأساسية هي أنه حتى من نأتي بهم للتطوير٬ عندما لا يكونون متدربين ومجرد مستهلكين لمفاهيم لا يدركون معناها٬ تدخل دولنا في كوارث أكبر٬ وكذلك مدننا.
ا أساسه الشقة الحديثة٬ المكونة من غرفة نوم وغرفة سفرة وغرفة معيشة٬ وتبقى غرفة السفرة مقفلة طوال العام٬ حتى يأتي الضيف الذي يليق بنى المصريون عمرانً
بالسفرة. ويأكل أهل المنزل في الصالة أو في المطبخ. مساحات مقتطعة مغلقة من أجل المظهر لا الجوهر. «فشخرة»٬ كما كان يقول حسني مبارك. نحتاج إلى بناء أوطان أساسها المتنزهات والمواطنة لا المولات التجارية وتحويل المواطن إلى مستهلك. نحتاج إلى أوطان نسكن فيها من أجل استقرار إنساني داخليا وهمية لأنها موضة خارج حدودنا.
وخارجي ينتج قيمة مضافة٬ وينتج ثقافة وحضارة المواطن لا حضارة المستهلك٬ ولا نرسم على صدورنا صلبانً أزمتنا هي في تخطيط مدننا وبيوتنا؛ أزمة حضارية قبل أن تكون أزمة سياسية. فقبل أن ندعي أن تعليمنا يؤدي إلى التطرف٬ أو أن فهمنا الخاطئ للدين يؤدي إلى التطرف٬ لا بد وان تخطيط مدننا وشوارعنا وعمارتنا مسكون بالتطرف٬ وذلك لأننا عادلة وعمارة إنسانية٬ بل نقلد ما لا يناسبنا٬ فنصبح ضحية تسارع محموم مع التقليد. العمارة وتخطيط المدن كما النباتات٬ هناك نباتات يمكن أن تعيش فيِ مدنًا لم نب بيئات مختلفة عندما تتم إعادة زراعتها أو (شتلها)٬ وكذلك المعمار وتخطيط المدن. أساسهاا وأوطانً
السياسة كل متكامل٬ السياسة عمارة٬ بناء البيوت وبناء الشوارع وبناء الإنسان٬ وعلى دولنا التي تتمنى تجنب مستنقع الدول الفاشلة أن تبني مدنً المواطن٬ وليس المستهلك. مواطنون لا مستهلكون٬ هكذا يجب أن يكون شعارنا.