بقلم - مأمون فندي
عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان يجب أن تدفعنا إلى قليل من التأمل في خيال العلاقات الدولية في نسخته المضطربة، إذ بدأت الحرب على «القاعدة» والتي أدَّت إلى احتلال أفغانستان من قبل الولايات المتحدة بعد حادث يمثل قمة خيال القبح العنيف يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 انهار معها البرجان في نيويورك ومعهما احترق آلاف من البشر في جحيم معلن. فهلا تأملنا ما أوصلنا إلى هنا، وهل كان من الممكن أن تكون العلاقات الدولية بخيال أفضل أو أقل قبحاً؟ أم أننا سائرون في درب الخيال القبيح إلى نهاية هذا القرن؟ «»
ليس هناك من ينكر على الولايات المتحدة غضبتها أو رغبتها في الانتقام، والانتقام هو أمر لا يحتكم إلى ميزان العدل، فدعنا نسميه كذلك ونمضي، ونقر بأن الرغبة الجامحة في الانتقام رغم قبحها في أفغانستان أو العراق يمكن فهم دوافعها، أو مبرراتها، ولكن هل كان من الممكن أن نتصور مساراً آخر للأحداث من منظور آخر للعلاقات الدولية فيما بعد الحادي عشر من سبتمبر؟ أذكر أنني كنت في واشنطن العاصمة يوم أحداث سبتمبر 2001 وكان الغضب واضحاً في عيون كل من حولي وخصوصاً من كانوا قريبين من عالم السياسة، غابت العقول لحظتها ولم يكن في عيون من يخططون للسياسة إلا الغضب، إلا قلة قليلة حاولت أن تتمسك بالعقلانية وقليل من الحكمة.
دخلت على الخط أصوات مغرضة ذات أجندات خاصة وملأت أصواتها الفضاء العام بفعل فاعل، وكان المفكر بيرنارد لويس الصهيوني النزعة منظر الانتقام الأكبر وكانت جوقة واشنطن إنستيتيوت الموالية تماماً لإسرائيل تردد كل عبارات الانتقام.
في ورش عمل لترشيد السياسات كنت قد حضرتها كانت تلك الأصوات طاغية وكان أساتذة للعلاقات الدولية قادموا من جامعة هارفارد مثل ستيفن والت يمثلون أقلية فيما طغت أصوات السباكين السياسيين في العاصمة على العقل، إذ لم يكتف هؤلاء بضرب القاعدة انتقاماً بل كانت هناك أغلبية زاعقة تنادي ليس بغزو أفغانستان فقط، بل بغزو العراق ومعه بلدان أخرى. كان شعور غرور القوة طاغياً.
ولك أن تتخيل لو أن كل أجندتهم كانت قد نفذت لتورطت أميركا في أكثر من بقعة في الأرض، وبدلاً من التعاطف العالمي الذي كان يشبه الإجماع عادت أميركا بفضل هذه الأصوات إلى صورتها القديمة السيئة إذ بدت مرة أخرى كاستعمار جديد وقوة غاشمة تعتمد حق القوة لا قوة الحق.
كل ذلك بسبب مخيلة قبيحة للعلاقات الدولية استلهمتها واشنطن من جماعة إسرائيل في واشنطن «إنستيتيوت» أو «أميركان إنتربرايز» أو جماعة المحافظين الجدد الذين انتشروا في مجلة الشؤون الدولية و«النيو ربيبابلك» و«الأميركان إنتريست» ومعها «الوول ستريت جورنال»، وظهرت على السطح القناة المعروفة بـ«فوكس نيوز».
امتلأ الفضاء العام بخطاب الكراهية وخفت خطاب العقلانية والتخطيط. فأياً كانت قدرات منظّر مثل بيرنارد لويس كمؤرخ، ترى ما علاقته بعلم السياسة والتخطيط الاستراتيجي للسياسة الخارجية لقوة عظمى مثل الولايات المتحدة؟ ذهب بوش الابن وذهب معه المحافظون الجدد وجاء باراك أوباما الذي ظننا أنه رئيس مفكر، ولا ينكر أحد أن أوباما كان من أكثر رؤساء أميركا تعليماً، ومع ذلك فشل في أن يجمع حولة نخبة سياسة خارجية أفضل ممن سبقوه، فقط استبدل كوندوليزا رايس بسوزان رايس، وما ذلك باستهزاء بقدر ما هو مؤشر على أن الفرق لم يكن كبيراً بين السيدتين في تناولهما للشؤون الخارجية للولايات المتحدة وخصوصاً تجاه العالمين العربي والإسلامي، ومعرفة كل من حول أوباما بهذين العالمين هي معرفة سياحية باستثناء خبرة الرئيس المباشرة بإندونيسيا.
أوباما كان متردداً في مراجعاته لأسس السياسة الخارجية الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقط كان متمسكاً بفكرة نشر الديمقراطية التي وجدت ضالتها وضلال رؤيتها في أحداث الربيع العربي التي رأى فيها أوباما فعلاً محلياً لتغيير البيئة المنتجة للتطرف، فوقف مع الربيع نصف وقفة، وفشل الربيع وفشلت السياسة الخارجية الأميركية نحوه.
والآن وأن تسمع خطاب الرئيس جوزيف بايدن والحديث عن الانسحاب من أفغانستان وأمنياته بأن منحنى التعلم والشروط التي تفرضها أميركا على الاعتراف بحكومة طالبان سترشد المشهد.
كان حال الأميركيين في أفغانستان كما حالهم دوماً ضحية النصب المحلي؛ إذ صور لهم أهل الفساد أن لأفغانستان جيشاً قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل وصرفت على بنائه مليارات الدولارات، ولما جاءت مواجهة بينه وبين عناصر طالبان انهار تماماً وهرب الرجال بأسلحتهم وتركوا كابل. الفساد صنع للأميركيين جيشاً من سراب ومخيلة نسجت من خيوط أوهام، وأوهام نسجت من خيال قبيح، فإذا كان ما حدث في أفغانستان لا يقنع الأميركان بإعادة النظر في أسس تصورهم للعلاقات الدولية فما الذي يقنعهم؟ أدعي أن خيال الفساد القبيح في أفغانستان الذي أوصلنا إلى هنا في حالة أفغانستان لا يختلف كثيراً عن خيال جماعات إسرائيل في واشنطن والذي يأخذ الدولة الأكبر في العالم في مسارات لا يستطيع أي دارس عاقل للعلاقات الدولية إلا أن يقول إن مصيرها سيكون كارثياً أيضاً.