مأمون فندي
إصرارا مني ومن زوجتي على ان تتعلم ابنتنا «نعمة» اللغة العربية لبناء هويتها الثقافية والدينية اخذها في عطلة نهاية الأسبوع لدروس اللغة العربية واليوم وانا في انتظارها حتى تنتهي من الدرس جلست في مقهى قريب أتناول القهوة واقرأ . مسودة دستور مصر الجديد. وهذا امر لا أتمناه لأحد حتى لو كان عدو لي، فقراءة دستور الاخوان المعدل مأساة إنسانية . فالمهم انني وصلت الى فقرة تقول ان رئيس الوزراء أو أي عضو في الحكومة لا يجب ان يكون هو أو أي من أبويه حمل طيلة حياته جنسية اخرى غير الجنسية المصرية . وجلست افكر في مستقبل ابنتي التي ليس من الممكن وفقا لهذا الدستور أن تكون ذات يوم وزيرة في مصر ان كان لديها الطموح لذلك، بينما لا شيء بمنعها ان تكون وزيرة او حتى رئيسة وزراء في بريطانيا، ولا شيء أيضاً يمنعها من ان تكون وزيرة في أمريكا. فإذا كان هذا متاحا لها في بريطانيا وأميركا فما الذي افعله كل عطلة نهاية أسبوع بأخذها الى المدرسة العربية لأنمي عندها الحس المصري والقيم الثقافية المصرية والعربية؟ هل لأضع على حياتها كوابح او فرامل واشتت ذهنها وأبني لديها مفاهيم متحيزة لثقافة لن تمنحها سقف فرصها في الحياة. قلت في نفسي اذا كان هذا هو دستور مصر، فمن الظلم ان أرسخ في عقل البنت انتماء يشوشها ويؤثر على فرص وصولها للقمة ان سعت إليها في مجتمع لا يميز ضدها. ان ما افعله في الحقيقة هو ضد مصلحة ابنتي رغم حبي اللامتناهي لمسقط رأسي ووطني الام مصر. ولكن في النهاية سأترك ابنتي للحياة فيما بعد وحدها، فلماذا أكون طرفا في هذا التشتت الذهني والخلط في الولاءات التي يراها الدستور المصري نقيصة وليست قيمة مضافة. نعمة هي مثال واحد من بين عشرات الآلاف من جيل المستقبل من المصريين والمصريات الموجودين في قارات العالم المختلفة، والذين يبذل آباؤهم وأمهاتهم الجهد والوقت والمال لربطهم مشاعريا ولغويا بما يفترض أنه الوطن الأم. بعد تفكير عميق، هل نحن (الآباء المغتربون) نرتكب جريمة أخلاقية بحق صغارنا، بربطهم عاطفياً بوطن لا يراهم مواطنين كاملين، فهو فقط يراهم كجمهور يصفق لمن سينتخبون في مصر فقط لهم حق التصويت والتصفيق؟ وبالطبع ومثل كل الآباء لا احب لابنتي ان تكون جمهورا بل اتمنى لها سقف طموح اي طفل في العالم . ولكننا وللأسف ورغم تعلقنا ببلداننا وتنبنينا لقضاياهااحيانا بما يفوق طاقتنا الا اننا اتينا من بلدان طاردة لا متسقطبة للبشر. بلدان قررت عزلنا لانها متأكدة من ولائنا لها واننا نتيجة هذا الحب سنقبل هذا العزل السياسي دونما حرم ارتكبناه. فلماذا يا ترى نحمل أبنائنا حب قاس وطارد يؤذي مشاعرهم في النهاية لماذا ننفق الوقت والمال كي مغرس فيهم هذا الحب لعالم لايحبهم فقط ينادي عليهم عندما يحتاجهم وقت الضرورة؟
اذكر عندما حصلت على الجنسية الأميركية كنت مترددا جداً وايضاً بدوافع رومانسية واجلت اكثر من مرة حتى حصلت على الدكتوراة وعملت أستاذا في الجامعة وكانت تأتيني الدعوات للمحاضرات والمؤتمرات وكي تنتقل من بلد الي بلد وبسرعة خلال أسبوع او اثنين وانت تحمل جواز سفر مصري كانت عملية صعبة جداً. كان لي زميل مصري اخر رأي ترددي وقال « هو انت متردد ليه ان يكون لديك جواز سفر أميركي يسهل عليك السفر؟ انا مستغرب ان جوازك المصري دخلك القاهرة او اي مكان بعد أهرامات الجيزة وانت قادم من الصعيد؟» وفكرت فيما قال يومها وبالفعل جواز السفر المصري يومها لم يكن يأخذني فقط الي شمال الهرم ورغم سخافة النكتة التي قالها صاحبي الا انها كانت القشة وبعدها قررت الحصول على جواز سفر أميركي . اظن أيضاً ان هذه ليست حالة خاصة فالاف وربما ملايين من المصريين حصلوا على جنسيات اخرى لتسهيل حركة حياتهم من دولة اليى دولة في العالم الجديد الذي يعيشون فيه. فنحن لم نكن مهاجرين من سويسرا او النرويج ، نحن كنا مهاجرون من دولة فقيرة طاردة ومن نظام دكتاتوري ظالم ولولا الارتباط بالأهل وقوة الانتماء لما عاد الملايين من المصريين الي ارض الوطن ولو للزيارة اذ لم يكن هناك ما يبهج او يسر النفس، فقد تعود الى الوطن وتجد نفسك ممنوع من السفر لأسباب لا تعلمها. ومع ذلك ورغم المعاناة أصر كل المصريون تقريبا ان يبقوا مرتبطين بقوة بوطنهم يرسلون كل مدخراتهم وكانوا أساسيين في استمرار الحياة على ارض موت نظام الدكتاتورية فيها كل شيء له علاقة بالإنتاج الا السرقة.
استطيع ان افهم ان تكوت الشروط صارمة لمنصب رئيس الجمهورية مثلا، ايدان يكون من أب وأم مصريين وربما حتى الجد الخامس ولم يحصل على جنسية اخرى، اما منصب وزير فني في الحكومة او عضو برلمان فهذا اعتقد انه إجحاف لانه يحرم مصر، تلك الدولة النامية ذات التعليم المحدود في تنمية القدرات، من خبرات آلاف من ابنائها الذين تعلموا في افضل جامعات الغرب وربما عملوا وخبروا افضل مؤسساتها. لك ان تتخيل ان اقتصادي بحجم الدكتور محمد العريان يمكن ان يعمل في الحكومة الامريكية ولا يصلح ان يعمل في مصر وهي في أمس الحاجة لرجل بخبراته فقط لانه حمل جنسية اخرى .
يمكن ان نكون عقلاء مثلا ونقول ساعة ان يعين شخص بأهمية وخبرة العريان نطلب منه بأدب ان يتخلى عن الجنسية الاخرى لانه سيمثل مصر ومن غير المعقول ان يحمل جنسية اخرى غير المصرية. بالنسبة لعضو البرلمان مثلا ساعة قبوله الترشح او بعد الانتخاب ان يتخلى عن اي جنسية اخرى . اما الا يكون لأي من ملايين المصريين في الخارج اي شراكة في رسم سياسات وطنهم ويكونوا فقط جمهور ينتخبون ويصفقون ثم بعدها تطالبهم وأبنائهم ان يكونوا لوبي او جماعات ضغط في الغرب للدفاع عن المصالح المصرية بدعوى المحبة والانتماء فهذه سذاجة. فبدلا من ان نتصور ان يكون هؤلاء جماعات ضغط لابد وان نحترز ضد انقلاب هذه المحبة الي كراهية اذا ما أدركوا ان بلدهم الام تعاملهم كمواطنين ناقصي الأهلية .هذه الكراهية ربما لن تظهر في هذا الجيل ولكن من لا يتحسب لهذه الظاهرة في اجيال المستقبل فهو بالتأكيد محدود الذكاء.
العالم اليوم يتجه الي تنمية التنوع وليس العزل والإقصاء. عندما تقدمت لابنتي في احدى المدارس الخاصة للبنات فقط لم يكن بين فصلها الدراسي من يتصف بالنقاء العرقي فكل الاطفال خليط من أمهات وآباء ينحدرون من أعراق وثقافات مختلفة. هذا الثراء والتنوع سيصب بالتأكيد في مصلحة بريطانيا وبالتأكيد لن يصب في مصلحة مصر او لي دولة تكتب دستورها بالطريقة التي يكتب به المصريون دستورهم.
أحزن كثيرا عندما افكر انه سيأتي اليوم الذي ربما أقرر لابنتي نعمة او هي تقرر لنفسها ان ارتباطها بمصر هو مصدر تشويش على طموحها في بريطانيا او اميركا. انتماء يتسبب لها في توتر ويجعلها تهتم مثلي بدراسة العالم العربي رغم ان لا مستقبل لها هناك سوى ارتباطها بعلاقات القرابة والدم .
الدساتير، يا ساده، وقبل ان تكون مواد وفقرات هي رؤية لعلاقة الدولة بالمجتمع ، هي مفاهيم حاكمة في المقام الاول تعكس رؤية جديدة لا تضيف للمجتمع الذي يكتب فيه الدستور وإنما للعالم كله خصوصا اذا ما جاء الدستور بعد ثورة سياسية رغم ان ثورة مصر ليست اجتماعية بعد رغم كل هذا الزخم. فكما حاء الدستور الفرنسي مثلا محكوما بمفاهيم الإخاء والماسواة والحرية التي كانت شعار الثورة الفرنسية وجرت هذه المفاهيم في كل فقرات الدستور كما يجري الدم في العروق لابد وان يعكس دستور مصر بعد موجتين من الثورة قيم هذه الثورة ، هذا ان كان للثورة قيم من بعد ان قرأت ما هو مكتوب.
الدستور هر رسم هندسي ليقام علي أساسه معمار سياسي جديد يتسع لكل المصريين اساسه حرية الانسان وكرامته، ويضيف ايضا الي القيم الانسانية كما في حالة الدستور الفرنسي والاميركي ، ولا يعكس الأمراض النفسية لمن كتبوه بل يعكس روح مرحلة وروح حضارة. الحضارة المصرية جعلت العبراني يوسف عليه السلام وزيرا على خزائن مصر. فكيف يستقيم للعقل ان تفخر بهذه الانتماءات في اول الدستور وتمارس ما هو ضدها في تفاصيله. ولن أتحدث هنا عن الخلل في البناء الفكري عندما تقول ان الشعب المصري جزء من الأمة العربية وفي ذات الوقت يكون المصري المتزوج من عربية متزوجا من أجنبية . فأما ام تلغي الأولى لانها كلام فارغ او الثانية لانها لا تنسق مع الأمراض النفسية المحلية. وأي دستور هذا الذي يحدد للإنسان من ومن اين يتزوج ان أراد ان يكون شريكا في بناء الوطن؟
* ملحوظة واعتذار: نعمة قد تكبرين وتقرأين هذا المقال او ربما تعرفين لغات أخرى ليست العربية من ضمنها لان أهلنا هناك لا يعتبرونك منهم رغم اسمك المصري العزيز. هذا ليس تشهير بك يا ابنتي ولكنها الظروف فرضت علي ان استخدم اسمك هنا. فأرجو السماح وقراءة الموضوع بقلب متسامح . والهم الله أهلنا في الوطن سعة الصدر فالقضية ليست شخصية ولكن مصر تحتاج بكل مواهب من يحبها كن أبناءها سواء كانت امه غير مصرية او ان أبويه حملا جواز سفر آخر.