مأمون فندي
حلم القوميون السوريون مع أنطون سعادة منذ 1932 بسوريا الكبرى، أي سوريا الحالية مضافًا إليها لبنان والأردن والعراق وفلسطين ولواء الإسكندرون، الذي وضع تحت السيطرة التركية بموجب معاهدة لوزان، حتى الكويت. أي ببساطة سوريا الكبرى هي ما كان يعرف بالهلال الخصيب أو بلاد الشام. هذا هو الحلم. أما ما تحقق في الواقع، وبعد أكثر من نصف قرن من الضجيج والصخب الآيديولوجي، فهو سوريا الأصغر فالأصغر، والتي نراها مقسمة ميدانيًا على الأرض، بين ما يسيطر عليه الجيش السوري والأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» والجماعات الأخرى المختلفة، وكذلك سوريا المقسمة طائفيًا.
خريطة طائفية وخريطة ميدانية تقولان إن سوريا التي يعرفها النظام، وكذلك سوريا التي تعرفها المعارضة، ليست سوريا الواقع. واستمرارًا للهوس الآيديولوجي ما زلنا بعد أربع سنوات من حرب أهلية في سوريا لا نتحدث عن مستقبل سوريا كوحدة جيوسياسية ودولة، فقد انحرف الحديث إلى تسطيح مخل: سوريا بالأسد أو من دون الأسد.. رغم أن سوريا ككيان، والتي تحوي الأسد ومعارضيه، كلها في مهب الريح. فكيف الخروج من سجن المغالطات إلى هدف معقول قابل للتحقيق؟ وما هي طبيعة نظام الحكم ما بعد التغيير.. هل سيكون الشيء نفسه بوجوه أخرى، أم رؤية جديدة؟
تشككي في مستقبل سوريا ونظام الحكم القادم فيها تكشفه ثلاث أحداث صغيرة تضع الفجوة بين القول والفعل من قبل المعارضة والنظام معا على المحك. الحادثة الأولى تخص موت زعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش وتعيين زوجته وصال بكداش وابنه عمار في منصب الأمانة العامة. توريث في الحزب الطوباوي القائل بالمساواة والاشتراكية لا يختلف عن توريث حافظ الأسد الحكم لابنه. الحادثة الثانية بعد وفاة أحمد الأسعد الأمين العام للحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي، حيث انتخب ابنه فراس الأسعد أمينًا عامًا (أيضا توريث).. وعندما توفي عبد العزيز عثمان، أمين عام حركة الاشتراكيين العرب، خلفه ابنه غسان عثمان. إذا كان هذا هو ما يحدث في أحزاب تدعي التقدمية، فماذا سيحدث لو انتصر تنظيم «داعش» أو «جبهة النصرة»؟
المشكلة إذن لا تخص الأسد وحده، لكنها مشكلة ثقافة. واضح أن الأسد أو حتى مبارك في مصر لم يسقطا على مجتمعاتهما بالباراشوت، بل هما نبت طبيعي لهذه المجتمعات.. ألم يبق فؤاد سراج الدين في مصر زعيمًا لحزب الوفد مدى الحياة؟ وألم يبق خالد محيي الدين زعيمًا لحزب التجمع حتى أصابه الخرف؟ الحكم مدى الحياة والتوريث ليسا ظاهرتين فرديتين، بل هما عَرَضَان لأمراض متملكة في الحشا العربي عمومًا والسوري خصوصًا. إذن، ما الضامن أن ما بعد بشار لن يكون مثل عهد بشار وأسوأ عندما تصبح سوريا مجموعة طوائف وقبائل متناحرة؟
بداية الحديث الراشد عن سوريا تبدأ من الدروس المستفادة من تجربة العراق، حيث تم اقتلاع جذور ديكتاتور بشع في العراق عام 2003، ومع ذلك بعد 12 عامًا يبدو العراق أسوأ حالاً من عراق صدام. كيف حول زعيم بعثي مثل صدام العراق الغني بالبترول والثروات الطبيعية إلى أفقر شعوب الأرض؟ سؤال تجب مناقشته في الحديث عن سوريا الأفقر من العراق.
صدام والأسد يشتركان في الجرائم وفي آيديولوجية حزب البعث الحاكم، ويختلفان في قضايا كثيرة أخرى، فهل يعني هذا أن حزب البعث كان ولا يزال كارثة عربية يجب التخلص منها قبل الحديث عن مستقبل الأسد؟
طبعًا سوريا اليوم ليست في يد السوريين نظامًا كانوا أو معارضة، سوريا الآن حكمًا ومعارضة إما بيد الكفيل الروسي - الإيراني في حالة النظام، أو الكفيل الأميركي - الإقليمي في حالة المعارضة. إذن شكل علاقات الكفيل الدولي للنظام مع الكفيل الإقليمي للمعارضة يحدد ملامح النظام القادم، لكنني لست متفائلاً بهذا المستقبل.
لنفترض أن النظام تغير غدًا، فما البديل الجاهز للحكم؟ وهل ستستمر سوريا كما العراق 12 عامًا أخرى كي تشبه عراق اليوم أو تنزلق لتصبح الصومال؟ وماذا يعني ذلك لآكلات الجيف الإقليمية ممثلة في الجوار غير العربي لسوريا مثل إسرائيل وإيران وتركيا؟
أسئلة سوريا أعقد بكثير من محاولة تسطيحها وتحويلها إلى بشار أو لا بشار، بينما الوعاء ذاته الذي يسبح فيه بشار ومعارضوه هو وعاء مهدد بأن يتهشم.
وهل تفتيت الدولة السورية هو بداية تفكيك جغرافيا «سايكس – بيكو» في سوريا وخارجها؟ أي أن انهيار سوريا فيه انهيار للإقليم برمته؟ الأسئلة كثيرة لكنها تتطلب عقولاً باردة في التحليل، وجرأة في مواجهة الغوغاء، والقول بما لا يعتبر رشوة للجمهور.
سوريا المعارضة والنظام انتهت كما انتهى حلم سوريا الكبرى. مطلوب الحديث عن سوريا جديدة، ليس سوريا الكبرى ولكن ربما سوريا الصغرى أو الأصغر.