مأمون فندي
منذ اللحظة التي هبط فيها بنيامين نتنياهو مطار هيثرو في لندن، وهو لا يتوقف عن نقد الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، ويؤكد على خطورة هذا الاتفاق على إسرائيل والمنطقة، ومع ذلك فالإتفاق يسير قدما نحو خط النهاية بموافقة الكونغرس الأميركي عليه، فإذا كان اللوبي الصهيوني يمتلك كل القوة التي ينسبها العرب إليه، فلماذا فشل اللوبي في تعطيل مسار الاتفاق النووي، رغم خطبة نتنياهو العصماء أمام الكونغرس، ورغم كل العمل الدؤوب لمنظمة «إيباك»، الذراع السياسية لإسرائيل في أميركا، ورغم كل المال السياسي اليهودي في الغرب، والتأثير الثقافي من هوليوود إلى عالم التلفزيون والصحافة، أو ما يُسمى قوةَ إسرائيل الناعمة في الغرب؟ هل قصة اللوبي التي روّجها العرب هي مجرد تبرير لحالة «التوحد الاستراتيجي» التي نعاني منها؟
بالتوحد الاستراتيجي strategic autism، أعني الحالة التي تركز فيها الدول على عامل واحد يفسر فشلها الاستراتيجي. استخدام ذريعة اللوبي الصهيوني وقدراته الخارقة، مثال واضح على حالة التوحد الاستراتيجي هذه لدى العرب.
نعم، هناك التزام أخلاقي لدى الغرب بأمن إسرائيل نتيجة لإحساس جماعي بالذنب تجاه محرقة اليهود في أوروبا، أو ما بعرف بالهولوكوست. ولكن في عالم الدول والعلاقات الدولية، هناك قوة الدولة وأهميتها الاستراتيجية، وملامح تلك القوة وعناصرها التي تتمثل في قدرات الدول العسكرية وحجم اقتصاداتها، ومساحتها الجغرافية وعدد سكانها ومدى قدراتهم. وفي هذا السياق تصنف إسرائيل في علم العلاقات الدولية ضمن قائمة الدول الصغيرة small states، مثلها مثل قطر وسنغافورة، وقد كتبت في السابق في هذه الصحيفة عن الدول الصغيرة بتاريخ 14/11/ 2014 في إطار اتفاق الرياض بين قطر والسعودية والبحرين والإمارات بعنوان «جرعة واقعية لاتفاق الرياض»، قلت فيه إن قدرة الدول الصغيرة في النظام العالمي المتسم بالفوضى على التكيف والبقاء، كانت دائما سؤالا يشغل دارسي العلاقات الدولية، ومع هذا السؤال أسئلة كثيرة عن السياسة الخارجية للدول الصغيرة، وقدرتها على الاستقلالية عن الدول المهيمنة، سواء في النظام العالمي المجمل أو في الأنظمة الإقليمية الفرعية.. هل هي قادرة على أن تكون لها سياسة خارجية مستقلة؟ وهل لدى أي منها (مهما كان حجم الوهم لديها) القدرة على تغيير سياسات دول كبرى أو حتى مجرد دول أكبر منها؟ وهل تستطيع تغيير بوصلة سياستها الخارجية مائة وثمانين درجة في يوم وليلة؟ ولو فعلت، فما تبعات هذا التغيير على العناصر التي كانت داعمة لهذه السياسات؟ وهل سيأتي ذلك على حساب سياسات أخرى قد تحد من قدرات الدول الصغيرة على التكيف والبقاء وقدرتها على التأثير؟ هناك كثير من الكتب المؤلفة لمناقشة سلوك الدول الصغيرة في النظام الدولي، ولكن ما أودّ طرحه هنا يخص إسرائيل التي تصنّف - ضمن أدبيات الدول الصغرى - على أنها دولة صغيرة. الهدف من هذا الطرح، هو تفكيك وهم اللوبي الذي استخدمه العرب سنين طويلة، لتبرير عجزهم على العمل الجماعي ليكونوا فاعلين في العلاقات الدولية.
عدم قدرة إسرائيل و«اللوبي الصهيوني» على التأثير في مسار الاتفاق النووي بين إيران والغرب يكشف عورات كثيرة ثقافية وسياسية واستراتيجية.
ثقافيا، يفتح عجز اللوبي عن التأثير في مسار الاتفاق النووي مجالا لنقد العقل الاستراتيجي العربي، وكذلك نقد عقلية العلم بتكرار الأكاذيب والجهل، حتى تصبح حقائق لا تناقش. وما الركون إلى فكرة اللوبي كمبرر، إلا عرض لمرض استشرى في الثقافة العربية، يعتمد على ترويج الجهل لا العلم كأحد أعمدة المعرفة التي تؤسس لثقافة التخلف ولتحديث التخلف أيضا. تأتي المعرفة إما من خلال دراسات وصفية دقيقة، وإما استخدام المنهج المقارن بين المختلف وأحيانا المتشابه للوصول إلى معرفة أكثر دقة. ولو قارن المثقف العربي أو السياسي العربي قدرات «اللوبي الصهيوني» في عدد من القضايا المختلفة، مثلا في سياق تأييد مرشح رئاسي في الانتخابات الأميركية أو حتى تحرير جاسوس، إلى قدرات هذا اللوبي في الملف النووي، لأدرك أن اللوبي ليس لديه تلك القوة الخارقة في السيطرة على السياسة الأميركية، وأنه عرضة للنجاح والفشل حسب قدرات من يواجهه، أو حسب صعوبة الملف المطروح أو سهولته.
ظن العرب لسنين طويلة أن القضية الفلسطينية لا تتزحزح ولا تحل، لأن قدرات «اللوبي الصهيوني» خارقة، رغم أن المتابع لمراحل الاتفاقات والمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية برعاية أميركية، يدرك أن هناك مراحل كان فيها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون أقرب للعرب منه لإسرائيل، ولكن العرب، أو تحديدا الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ترددوا في أن يسوقوا الاتفاق، وبالتالي لم يقبلوه. والأساس في هذا التردد هو العجز في الشرعية legitimacy deficit عندنا وليس قوة اللوبي عندهم، رغم أنه كان هناك إجماع على شخص ياسر عرفات، ولكن لم تكن هناك مؤسسات تخلق حالة شرعية خارقة لعقلية الغوغاء وجماعات المعرفة المستقاة من تكرار الجهل، ولهذا ربما حتى في مصر والأردن اللتين توصلتا إلى اتفاق مع إسرائيل، فشل الحكم فيهما في تسويق السلام.
النقطة التي أتمنى أن أتناولها في مقالات أخرى حيث المساحة لا تسمح هنا، هي أن أسطورة «اللوبي الصهيوني» وقدراته الخارقة على تغيير مسار السياسات الأميركية، هي وهم عربي لتبرير حالة «التوحد الاستراتيجي»، أو العجز العربي الجماعي للتأثير في العلاقات الدولية. وما قصة اللوبي والملف النووي الإيراني إلا واحدة من القضايا التي تكشف حالة العجز هذه.
آن الأوان بعد مرور ما يقرب من قرن على قيام بعض الدول العربية الحديثة أن نناقش لماذا فشلنا، ولا نبالغ في نجاح من هم ضد سياساتنا، فالأساس هو فشل سياساتنا وقلة قدراتنا وليس قوة الخصم، وبالطبع الخصم متغير في العلاقات الدولية، ولن يبقى دوما إسرائيل. لماذا لا نسأل أنفسنا كيف لدولة صغيرة أن تكون أقوى من مجموعة دول أكبر حجما؟ هل العرب في مجمل تأثرهم في العلاقات الدولية، أقل من قدرات دولة صغيرة مثل إسرائيل؟ أسئلة كثيرة تفتح أبواب نقد جاد خارج دائرة التجهيل الجماعية، ولكن العرب تنبهوا إلى هذا فاخترعوا قصة «جلد الذات» لتبرير حالة العجز، إذا ما تجرأ أي منا على النقد! أما آن الأوان للحظة نضج، أم أننا ضحايا سجن من أوهام بنيناه بأيدينا لتبرير هذا العجز؟!
العالم العربي اليوم يعاني حالة الذوبان melt down ويجب ألا نسرع من تلك العملية للتمسك بالجهل لا العلم كأساس للمواجهة.