مع التركيز الإعلامي الحالي على « داعش »، يزعم بعض الخبراء أن الأزمة السورية، التي تدخل حاليا عامها الرابع، قد تحولت إلى عرض جانبي (هامشي).
والحقيقة هي أن سوريا لا تزال في قلب الأزمة التي تزلزل الكيان السياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وما لم تخرج الديمقراطيات الغربية مع حلفائها الإقليميين بسياسة حيال سوريا، فإن آمال العودة حتى إلى نوع ما من الاستقرار هناك سوف تكون آمالا بائسة. فتنظيم «داعش» هو النتيجة، في حين أن سوريا هي السبب.
حتى بالنظر إلى الأمر من زاوية عسكرية ضيقة فإن الحرب ضد «داعش» سوف تكون لها معان طفيفة خارج السياق الأوسع للمستنقع السوري. والسبب الكامن وراء ذلك في منتهى البساطة: بسط تنظيم «داعش» سيطرته، إما بصورة مباشرة أو من خلال التعاون مع حلفائه من الجهاديين، على ما يقرب من أربعين في المائة من الأراضي السورية، بدءا من البوكمال في الجنوب، على الحدود مع العراق المجاور، وحتى الحدود السورية – التركية، مرورا بميادين، ودير الزور، والرقة، ومنبج. وإذا ما سقطت بلدة كوباني فسوف يتسنى لتنظيم «داعش» تأمين حالة من التواصل الجغرافي في ما بين حلب، أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان، وكردستان العراق من ناحية الشرق.
وعلى العكس من بقية الجماعات المتشددة، ومن بينها تنظيم «القاعدة» على سبيل المثال، يحاول تنظيم «داعش» التحول إلى وضعية الدولة ذات التعبير الإقليمي. وبالتالي، فإن هزيمة ذلك التنظيم تعني دفعه إلى خارج المناطق التي يسيطر عليها. ومن الناحية العسكرية، فإنه يمكن التعبير عن ذلك من خلال المقولة الشهيرة «الأعمدة الثلاثية: الاستيلاء، والتطهير، ثم السيطرة».
عند مرحلة ما، سوف ينجح شخص ما، ربما يكون الجيش العراقي، أو القوات الكردية، أو الجيش التركي، أو حتى الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها، في الاستيلاء على المناطق الخاضعة حاليا لسيطرة تنظيم «داعش». وسوف يشرعون بعدها في تطهير تلك المناطق من الوجود الداعشي. ولكن ما عساهم يفعلون عند الوصول إلى العمود الثالث: السيطرة؟
لا يمكن تسليم مثل تلك السيطرة إلى جماعات متشددة أخرى حتى لو لم تكن في مثل بشاعة تنظيم «داعش» من حيث إن ذلك سيلقي بظلال شديدة السوء على سكان المناطق المتضررة. وسوف يكون من المحال كذلك السماح للأكراد بالسيطرة على تلك المناطق لأن ذلك قد يعني ظهور دويلة تخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني (PKK) على مرمى حجر من الحدود التركية، وهو أمر لن تسمح به أو تتحمله أي حكومة في أنقرة.
أما الخيار الآخر، وهو تسليم المناطق مرة أخرى إلى ما تبقى من نظام الرئيس بشار الأسد، فإنه قد يثير المزيد من الإشكاليات.
اليوم، يسيطر الرئيس الأسد على أربعين في المائة من الأراضي السورية في دمشق وأجزاء من ضواحيها بالإضافة إلى الشريط الساحلي مع ما يقرب من خمسين في المائة من سكان البلاد في فترة ما قبل الحرب. وهناك عشرون في المائة تقبع تحت سيطرة القوات المعارضة لنظام الأسد، في حين أن ربع السكان يتألفون من المشردين والنازحين إلى البلدان المجاورة أو في داخل سوريا نفسها.
يقترح البعض في واشنطن وإسرائيل عقد صفقة ما مع الرئيس الأسد ومساعدته على إعادة بسط سيطرته على الأقاليم المستعادة من تنظيم «داعش». وتكمن المشكلة في أن أولئك الذين خلعوا عن رقابهم قبضة الأسد لن يخضعوا لسلطانه مجددا. وبمزيد من الأهمية، ليس لدى الأسد ما يكفيه من الأسباب لإعادة بسط سيطرته بفعالية.
والآن، ليس لدى أحد النفوذ القهري أو الحجة المقنعة للمطالبة بالسلطة الفعلية في سوريا. فإذا ما اعتلى أي من اللاعبين في لعبة الموت تلك سدة الحكم، ولأي سبب كان، فسوف ينازعه عليه الآخرون بشدة.
يقول بعض الخبراء إن سوريا باتت دولة ميتة بلا أمل في إنعاشها قلبيا على غرار متلازمة لازاروس. والطرح يفيد بأن سوريا، مثلها مثل باقي الدول في الشام، قد اتخذت موضعها على الخريطة من خلال الإمبريالية الغربية، لكنها لا تعكس التنوع العرقي والديني وطموحات المنطقة المعقدة.
قبل عشر سنوات، اقترح السيد جوزيف بايدن، النائب الحالي للرئيس الأميركي، أن يتحول العراق إلى ثلاث دويلات. واليوم، يلعب رفاقه بطائرة ورقية مماثلة فوق سوريا.
حقيقي أن أفضل طريقة لخوض الحرب هي القتال على أساس الوضع الحالي، من دون نظرة مستقبلية، مع التركيز الأساسي على هزيمة وتدمير العدو.. ومع ذلك، لا تعتبر الحرب ذات فائدة إلا إذا نجحت في تغيير حالة الوضع الراهن من خلال خلق حالة جديدة تصب في مصلحة المنتصرين.
والمحاربون الحكماء، في حين أنهم لا يتشتت انتباههم جراء المخاوف «مما يمكن أن يحدث بعدئذ»، فإنهم، مع ذلك، يولون بعض التفكير إلى الشكل المحتمل لحالة توازن القوى في ما بعد انقضاء الحرب.
واليوم، فإن أيا من الخيارات المطروحة للنقاش لا يُرجح له أن يخرج بنتائج مفيدة، حيث لا يمكن ترك تنظيم «داعش» في محل السيطرة، ولا يمكن نقلها كذلك إلى أشكال «أخف عنفا» من «داعش».. فاستبدال نظام حكم جهادي متطرف بآخر ماركسي لينيني تحت عباءة حزب العمال الكردستاني (PKK) سوف يكون بمثابة قفزة سريالية كالمستجير تماما من الرمضاء بالنار. كما أن استدعاء سيطرة الإبادات الجماعية لنظام الأسد إلى السلطة مجددا لن يكون من قبيل التصرفات اللائقة، على أدنى تقدير.
وتستمر فكرة تقسيم سوريا، وبالنسبة لتلك القضية التي تهم دولا أخرى في المنطقة، فهي تلقى المزيد من السخرية اللاذعة والاعتقادات الراسخة لدى الأوساط الغربية من أن العرب عاجزون عن حكم أنفسهم من دون العنف والإرهاب.
إن اعتبار سوريا دولة اصطناعية لا يعني شيئا البتة، حيث إن كل دولة تشرق عليها الشمس هي بالفعل دولة مصطنعة، بدءا من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا مرورا بأستراليا والهند، فلا توجد دولة قومية أبدا سقطت من السماء تامة التشكيل والبناء. والخيار الواقعي الوحيد يكمن في تصور إحياء الدولة السورية في سياق جديد تماما. وأحد الحلول سوف يكون إقامة «ملاذات آمنة» تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة تتلامس على الحدود مع تركيا ولبنان والأردن والعراق، مما قد يوفر أساسا يمكن من خلاله تعزيز الحوار الدولي الذي يهدف إلى تقاسم السلطة بهدف استعادة الدولة السورية. وسوف توجه الدعوة للحضور إلى أولئك الذين، داخل معسكر الأسد، لا يزالون يؤمنون بسوريا الموحدة. وسوف يلعب الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي دور الوسطاء من أجل الوصول إلى تسوية وطنية.
دعونا نعتبرها حربا لتحرير سوريا ولاستعادة موضعها كدولة إقليمية حتى تكون الحملة ضد تنظيم «داعش» ذات فحوى.
من دون حل المعضلة السورية، فلن يدفع أي قدر من القصف الجوي أو حتى غزو القوات البرية بمنطقة الشرق الأوسط بعيدا عن حافة الكارثة. وبعبارة أخرى، إنها سوريا، أيها الغبي!