امير طاهري
هل الدراما التي تشهدها أوكرانيا تخبئ وراءها أزمة أكبر من المحتمل حدوثها في روسيا؟
هذا السؤال ليس مجرد خيال؛ فخلال ولاية الرئيس فلاديمير بوتين دخلت روسيا في أتون المجهول، ومن المحتمل أن تشهد أزمة شديدة بشكل مفاجئ.
ويمكن فهم كيفية إدارة بوتين للشؤون الروسية من خلال ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: حاول بوتين - ونجح جزئيا في تحقيق ذلك - منع الانهيار النظامي لروسيا، الذي بدأ في ظل قيادة الرئيس بوريس يلتسين المتذبذبة؛ حيث تم إحياء بيروقراطية الدولة، بالإضافة إلى إعادة تنظيم القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وتكليفها بمهام من جديد. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي كان لديها الحد الأدنى من الوسائل الإدارية، وتلك التي تمكنها من إنفاذ القانون لكي تظل واقفة على قدميها.
وفي المرحلة الثانية: تمكن بوتين من كبح جماح نظام «رأسمالية الغاب»، التي أنتجت نخبة جديدة من الأغنياء الجدد (محدثي النعمة)، والذين كانوا يشكلون عادة دولة داخل الدولة؛ حيث زجّ ببعض أعضاء الأوليغاركية في السجون، وأجبر عددا قليلا آخر على الذهاب إلى المنفى. ورغم ذلك، كانت تكمن استراتيجيته الأساسية في الربط بين أعضاء الأوليغاركية والكرملين، وبالتالي يقوم هو بإدارة دفة «رأسمالية الغاب». وعلى الصعيد الإيجابي، نجح بوتين في فرض بعض القيود بشأن نهب الموارد الذي يحقق ربحا غير مشروع.
أما في المرحلة الثالثة، فقد سعى بوتين للحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ؛ حيث إنه يرى أن روسيا كانت بحاجة لحاكم أوتوقراطي مستبد، وأنه يتعين عليه الاضطلاع بهذه المهمة. وبعد أن خوّل لنفسه القيام بدور المنقذ - المستبد، كان بوتين بحاجة للترويج لتقديس شخصية غير معروفة بالنسبة للروس منذ عهد جوزيف ستالين. وبلا شك، بوتين ليس هو ستالين ولم يكن مثله، إلا إذا تغير العالم، ورغم ذلك أسفر تقديس شخصه - الذي من الممكن أن يتم عبر ألف طريقة - عن تراجع دور مؤسسات الدولة القائمة، وأصبحت هناك حاجة لتطوير مؤسسات جديدة للارتقاء بروسيا.
وبالتأكيد، فإن الحاكم المستبد - عندما يحالفه الحظ - يمكنه أن يفعل المزيد وبشكل أسرع، إن لم يكن أفضل، مقارنة بنظام كان قائما على التفاعل بين المؤسسات؛ فقد استطاع الرئيس بوتين أن يمزق، ببساطة، الاتفاقية التي أبرمت بين الجنرال الكسندر ليبيد والشيشان، واللجوء إلى استراتيجية تقوم على شن حرب كلية دون استشارة أي شخص، فضلا عن إصداره أمرا يقضي بالقبض على أعضاء الأوليغاركية المليارديرات على خلفية تهم حقيقية أو وهمية ليست لها صلة بما يستند إليه النظام القانوني. وجدير بالذكر أنه في عام 2008، استطاع بوتين أن يصدر أمرا بغزو جورجيا، وضم 25 في المائة من أراضيها دون نقاش حتى في إطار مجلس الوزراء. وفي السياق ذاته، كان بوتين هو المتسبب في اندلاع الأزمة التي تشهدها أوكرانيا، ومن المفترض أنه المسؤول عنها دون أن يكشف أوراقه أو يتشاور مع رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، أو وزير الخارجية سيرغي لافروف في الأمر.
من الأصعب قراءة المشهد الروسي اليوم: روسيا مقارنة بما كانت عليه وقت الإمبراطورية القيصرية أو السوفياتية.
إن لقب القيصر كان يعني «المستبد لكل الروس»، ولكنه في الواقع كان يستطيع ممارسة النفوذ داخل نظام يضم مؤسسات رسمية وغير رسمية تعبر عن مصالح وأنماط متنوعة. وفي ما يتعلق بالسلالات الأوروبية الأخرى، كان يتعين على القيصر أن يأخذ في اعتباره المزاج العام للنخبة الملكية، وكان عليه أيضا أن «يستمع إلى الطبقة الأرستقراطية، التي تمثل شريحة كبيرة، وغنية، ولديها نفوذ داخلي، والتي كانت تقدم الدعم الأساسي للنظام الملكي. وبدءا من أواخر القرن الـ18، كان يتعين على القيصر أيضا أن يأخذ في اعتباره النخبة البيروقراطية والإدارية القوية المتعلمة تعليما جيدا نسبيا، والتي تحظى بالخبرة».
في عهد القياصرة الروس، كان يمكن لشخصية ثانوية - أمثال تشيتشيكوف، بطل رواية غوغول الهزلية «نفوس ميتة» - أن تصبح ذات حيثية لمجرد أنها أوجدت لنفسها مقعدا على طاولة البيروقراطية. وبعد الحاكم بطرس الكبير، أصبحت استبدادية القياصرة الروس أمرا نسبيا.
ولم تمثل الآيديولوجيا الشمولية للاتحاد السوفياتي وحدة متراصة؛ ففي المؤتمر الـ20 للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1956، كان نيكيتا خروشوف محقا في شجبه مسألة «تقديس شخص» ستالين، والجرائم المروعة التي وقعت، ورغم ذلك، فإن الفترة الستالينية، التي كانت تقوم على حكم الفرد الواحد، والتي تعود للفترة من عام 1932 وحتى وفاة الديكتاتور في عام 1953، كانت تمثل استثناء من القاعدة؛ فحتى وفاة لينين عام 1924، كان الحزب الشيوعي يلعب دورا حقيقيا في تشكيل السياسة في إطار القيادة الجماعية، بينما استغرق ستالين عقدا من الزمن من أجل تهميش القيادة الجماعية وفرض الحكم الاستبدادي.
وفي فترة ما بعد ستالين، كان الإخفاق السريع لجورجي مالينكوف، الذي تم اختياره ليخلف ستالين المستبد، يشير إلى العودة للقيادة الجماعية. وعلى مدى عدة سنوات، كان خروشوف بمثابة «الرئيس»، ثم خلفه ليونيد بريجنيف بعد ذلك، ولكن لا أحد منهما استطاع أن يقوم بدور الحارس الوحيد مثلما يفعل بوتين اليوم، فكان يتعين عليهما الأخذ في الاعتبار بآراء المكتب السياسي؛ حيث كانت تسعى فصائل مختلفة، تعبر عن مصالح ومسائل مهمة مختلفة، لأن يكون لها دور في عملية صنع القرار. ثم كانت هناك اللجنة المركزية الأوسع نطاقا، والتي لا تعد هيئة شكلية بأي حال من الأحوال؛ حيث أتاحت المجال للصراع على السلطة داخل الحزب. وكان يتم الأخذ في الاعتبار أيضا بآراء الحزب بأسرها، جنبا إلى جنب مع آراء الأحزاب الشيوعية «الشقيقة»، خاصة الكبيرة منها، مثل تلك التي تنتمي إلى فرنسا وإيطاليا والصين.
وغني عن القول أن جهاز الأمن - الذي كان يقوده جهاز المخابرات الروسي - والنخبة العسكرية كان لهم دور في عملية صنع القرار، كما كان يتم الاستماع إلى بعض الشخصيات غير الشيوعية، بالأخص التي تنتمي للغرب، بالإضافة إلى العديد من الزملاء المسافرين و«الحمقى الذين يمكن الاستفادة منهم»، والذين ساعدوا في الترويج للتعاطف مع النظام السوفياتي.
فمن خلال الإلمام الدقيق بالسياسات السوفياتية المتبعة لعدة سنوات، يمكن إدراك أن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية كان بمثابة قوة محافظة وموجهة في الوقت الراهن، وليست قوة مخربة تحركها دوافع انتهازية. فباستثناء غزو روسيا لأفغانستان، والذي اعتبره أندريه غروميكو، في ما بعد بمثابة «خطأ فادح»، لم يقم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية باتخاذ تدابير عسكرية خارج نطاق النفوذ الممنوح لها من جانب الولايات المتحدة، بموجب معاهدات يالطا وبوتسدام. ومن هذا المنطلق، وبضغط من إدارة الرئيس ترومان في واشنطن في عام 1946، تخلت موسكو عن طموحها لضم المقاطعات التي تقع شمال غربي إيران، وللسبب ذاته تخلت موسكو أيضا عن خططها لتوسيع نطاق النفوذ السوفياتي إلى اليونان.
لقد كان من الممكن التنبؤ بما سيحدث في موسكو بشكل دائم تقريبا خلال الحقبة السوفياتية، فعلى الأقل لم تقم موسكو فجأة بسحب أرنب من قبعته، فالصقور والحمام توجد بالكرملين، ويشكل التفاعل فيما بينها السياسات السوفياتية.
أما في عهد الرئيس بوتين، فلم يكن من الممكن التنبؤ بما سيحدث؛ حيث أصبح الضباب الكثيف يخيم على عملية صنع القرار. كما أن بوتين باستطاعته القيام بأي شيء ما لم يصطدم بشيء صلب في طريقه. هذه هي المعضلة اليوم.