عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة

عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة

عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة

 عمان اليوم -

عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة

بقلم : أمير طاهري

 لو أن الأمور استمرت على ما كانت عليه من قبل؛ بمعنى ما قبل الوباءين والتراجع الاقتصادي، لكُنّا سنجد المراسلين اليوم يحزمون حقائبهم ويستعدّون للسفر إلى واشنطن لتغطية فعاليات قمة أخرى من قمم «مجموعة الـ7»، التي هيمنت على وسائل الإعلام منذ سبعينات القرن الماضي.
ومع هذا، وبعد إرجائه مرتين، فمن المحتمل ألا ينعقد الحدث السنوي حتى في موعده الجديد؛ أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، الذي أعلنه رئيس المجموعة الحالي الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وأشك في أن أحداً، بخلاف حفنة من البيروقراطيين، سيشعر بالأسى لعدم انعقاد «قمة» كانت تتظاهر بأنها تتولى ترتيب شؤون العالم بمزيج من المحفزات الإيجابية ومحاولات الاحتيال عدم الشفافية.
بدأ تقليد عقد قمة سنوية لـ«مجموعة الـ7» بمبادرة من الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان استجابة لأول صدمة نفطية وقعت خلال سبعينات القرن الماضي، على أمل توحيد صفوف الاقتصادات السبعة الكبرى؛ خمسة منها أوروبية، بجانب اليابان، في إطار جهود التأقلم مع تداعيات تلك الصدمة.
بمرور السنوات؛ اكتسبت القمة بُعداً سياسياً، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ انضمت روسيا إلى المجموعة لتصبح «مجموعة الـ8»، وتتحرك نحو إعادة رسم صورتها بوصفها أشبه بمكتب سياسي عالمي.
إلا إن الرئيس ترمب يقول اليوم إن هذا الكيان برمته أصبح دونما معنى، لتتحول القضية إلى مشاحنة جديدة بين مؤيدي توجهات ترمب ومعارضيها. وفي الوقت الذي نجد فيه من يعتقدون أن ترمب لا يقترف خطأً، فهناك في المقابل مجموعة أخرى ترى كل ما يفعله أو يقوله خطأً. وبذلك يصبح من الصعب عقد مناقشة هادئة وعقلانية حول مدى أهمية «مجموعة الـ7».
ومع ذلك؛ دعونا هنا نحاول إنجاز ذلك.
قد يدفع البعض بحجة الحاجة إلى وجود آليةٍ ما تسمح للاقتصادات الكبرى بتبادل وجهات النظر وتنسيق جوانب من سياساتها بحاجة إلى هذا التنسيق. إلا إنه في هذه الحالة، لا تبدو «مجموعة الـ7» ممثلة لهذه الفكرة بالقدر الكافي، فالدول السبع الأعضاء معاً تشكل ما يزيد قليلاً على 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، وبينما تضم المجموعة دولاً مثل كندا وإيطاليا، فإن ثمة اقتصادات أكبر، مثل الصين والهند والبرازيل، غير مشاركة في المجموعة.
على الجانب الآخر، فإنه إذا تحركت نحو توسيع نطاق عضوية المجموعة، فأين ستتوقف؟ ربما توجه الدعوة إلى مزيد من الدول، لكن لديك بالفعل «مجموعة الـ20»، التي في بعض الحالات جمعت أكثر عن 50 دولة. أما بمزيد من التوسع، فستصبح لديك منظمة الأمم المتحدة بـ193 عضواً. في كلتا الحالتين، لن تكون هناك ضرورة لوجود «مجموعة الـ7».
ومع ذلك، فإن المشكلة الحقيقية ربما تكون في مكان آخر. الملاحظ أن التوجه الذي نعاينه حالياً على الصعيد السياسي العالمي يدفع بعيداً عن الصور الأولية للعولمة وباتجاه إعادة التأكيد على الدولة القومية بحسبانها واحداً من عاملين محوريين للعلاقات الدولية الاقتصادية والتجارية. أما العامل الثاني فهو النشاطات التجارية عبر الدول.
ولا يعني ذلك أن مجموعتي «الـ7» و«الـ20»، اللتين من المفترض أنهما من العوامل المتوسطة، لم تعد لهما أهمية، وإنما مجمل المنظمات الدولية، بدايةً من الأمم المتحدة ذاتها، لم تعد قادرة على الاضطلاع بدور حقيقي في النظام العالمي الصاعد الجديد، أو «حالة غياب النظام» إذا راقت لك تسميتها بذلك.
ويعدّ الأداء الكارثي لمنظمة الصحة العالمية خلال أزمة وباء «كوفيد - 19» الحالية مجرد مثال على مشكلة ذات طابع عام. في الواقع، كان من اللافت غياب البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية فيما يخص الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق والتي ستطال كل دولة من دول العالم. وفي الوقت الذي يأفل فيه نجم منظمة التجارة العالمية ويطويها النسيان، يقفز مديرها من السفينة الغارقة بحثاً عن وظيفة مجزية أكثر وبدرجة أكبر.
جدير بالذكر في هذا الصدد، أنه منذ عقد مضى ظهرت كتابات كثيرة حول انتهاء عصر الدولة القومية؛ بل وألّف يورغين هابرماس، أشهر فلاسفة ألمانيا آنذاك، كتاباً كان بمثابة نعي للدولة القومية. وتوقع آخرون، من أبرزهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مستقبلاً تتولى فيه تكتلات عرقية - ثقافية، بدءاً من الاتحاد الأوروبي، صياغة أجندة المستقبل.
ومع هذا؛ نجد اليوم أنه حتى ماكرون وجد نفسه مضطراً لإغلاق حدود بلاده ورفع شعار «أمتنا في حالة حرب».
وبخلاف ترمب الذي فاز بالرئاسة من خلال حمل لواء الدولة القومية، وإن كان ذلك قد فعله بأسلوبه، عادت التوجهات القومية لتطلّ برأسها بقوة في مناطق أخرى، خصوصاً الهند والبرازيل وأستراليا وبولندا والمجر وسلوفاكيا؛ وحتى بريطانيا العظمى مع إقرار «بريكست».
وبالتأكيد، يثير هذا الصعود في الخطاب القومي قلق كثيرين. وعادة ما يجري تبرير هذا القلق بالإشارة المتكررة إلى موسوليني وهتلر، وبدرجة أقل فرانكو وخوان بيرون. ومع هذا، ينبغي ألا ننسى أن موسوليني وهتلر، وبدرجة أقل بيرون، رفعوا لواء الاشتراكية، بينما ادّعى فرانكو أنه حامي الكنيسة الكاثوليكية أكثر من أنه حامي للأمة القشتالية.
وعلى مدار أكثر من 3 عقود؛ أي منذ معاهدات «وستفاليا»، شكلت الدولة القومية الوحدة الطبيعية للوجود الدولي. أما التوجهات المتعولمة فبدأت في القرن الـ19 من جانبين متقابلين.
على اليسار؛ أنكر الماركسيون وجود الدول ونظروا إلى الطبقات الاجتماعية بوصفها وحدات الوجود البشري. على الجانب المقابل، نظرت مؤسسات رأسمالية متعددة الجنسيات إلى العالم بوصفه مخزناً للموارد وسوقاً كبيرة. وقد يرى البعض أن الفريق الأخير كانت له الغلبة ومهّد الطريق أمام خلق مؤسسات دولية مصممة لإدارة نظام عالمي يقوم على القواعد.
ومع هذا؛ حلّت التوجهات العابرة للقوميات محل الأخرى الدولية على مدار العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. في إطار التوجهات الدولية، تتفاعل الدول القومية سعياً وراء تحقيق مصالح محددة ومشتركة. أما في إطار التوجهات العابرة للقوميات، فإن كيانات تجارية عملاقة متعددة الجنسيات، بدعم من كيانات بيروقراطية ضخمة، بل وأحياناً حكومات، تلفت إلى الدول القومية سعياً وراء مصالحها.
وحال تأكد عودة الدولة القومية خلال السنوات المقبلة، فإن هذا قد يؤدي لإحياء التعاون الدولي الكلاسيكي الذي تحددت ملامحه خلال الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وصاغ آليات أسهمت في الحفاظ على السلام ونشر الرخاء وتعزيز حكم القانون كما لم يحدث من قبل في التاريخ الإنساني.
بمعنى آخر، فإن عودة الدولة القومية، بدلاً من أن تؤدي إلى تمترس قومي ضيق، يمكن أن تبثّ روحاً جديدة في التوجهات الدولية وتمنح العولمة حياة جديدة. ومن أجل أن يحدث ذلك، يجب أن نتخلى عن كيانات الخداع البصري مثل «مجموعة الـ7» التي في أفضل حالاتها لم تكن سوى مناسبات لالتقاط صور السياسيين الساعين لجذب الانتباه.
إن ما يحتاجه العالم اليوم هو روح جديدة للتعاون الدولي عبر عمل دبلوماسي وسياسي صبور ودؤوب وذي نزعة تقدمية من جانب الدول القومية لصياغة هيكل جديد للوجود البشري. وعليه؛ فإن الدول التي تعيد التأكيد على هويتها يجب عدم النظر إليها بوصفها مصدر تهديد للنظام العالمي، وإنما، في واقع الأمر، ربما تضفي الشباب من جديد على نظام مُسنٍّ مريض.

 

omantoday

GMT 19:41 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

مجالس المستقبل (1)

GMT 19:20 2024 الخميس ,17 تشرين الأول / أكتوبر

البحث عن مقبرة المهندس إيمحوتب

GMT 15:41 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

موسم انتخابى كثيف!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة عودة الدول القومية ليست تهديداً بالضرورة



بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 20:58 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
 عمان اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 20:55 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
 عمان اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 21:08 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
 عمان اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 21:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

تحقيق يكشف عن تقييد "فيسبوك" للصفحات الإخبارية الفلسطينية
 عمان اليوم - تحقيق يكشف عن تقييد "فيسبوك" للصفحات الإخبارية الفلسطينية

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 19:30 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab