شهد الأسبوع الماضي حدثين بثا دفقة من النشاط والإثارة، فيما بدا أنه نهاية هزيلة للعام على صعيد التطورات السياسية بالشرق الأوسط. تمثل الأول في قرار القيادة السعودية باستحداث آلية جديدة للتعامل مع قضايا الفساد والاختلاس واستغلال النفوذ.
وكان العدد الضخم لهذه القضايا التي جرى تحويلها إلى محكمة خاصة كفيلاً للاستحواذ على اهتمام العناوين الرئيسية للأخبار. وازداد اهتمام وسائل الإعلام بالنظر إلى حقيقة أن 208 أشخاص يجري التحقيق معهم، بينهم أمراء ومسؤولون بيروقراطيون رفيعو المستوى ورجال أعمال كبار.
ومع هذا كان الأمر الذي جذب اهتمام العالم حقاً أن هذه التحركات السعودية كانت غير متوقعة بالمرة. في الواقع قليلون للغاية ممن يطرحون أنفسهم بصفتهم خبراء في الشأن السعودي توقعوا أن تقتحم الرياض قلب المسألة، بدلاً عن الالتفاف حول القضايا الرئيسية مثلما جرت العادة في الماضي.
وقد حذر بعض المراقبين، بينهم الكثير من المنظمات الفكرية الغربية، من أن التخلي عن السبل القديمة في إدارة البلاد يحمل في طياته التأثير على الاستقرار. ومع ذلك، جاءت التحركات الأخيرة متناغمة مع الاستراتيجية الجديدة التي تنتهجها المملكة والرامية للتعامل مع فكرة التغيير بصفتها حليفاً، وليس مصدر تهديد.
ويمكن القول إنه نظراً لأن السبل القديمة في إدارة شؤون المملكة لم تثمر النتائج المرجوة والاستقرار، الذي شكل عنصراً محورياً بالنسبة للمملكة على امتداد عقود، انزلقت البلاد إلى حالة من الجمود. وعليه، تسعى الاستراتيجية الجديدة لإنهاء حالة الجمود وتمهيد الطريق أمام نمط جديد من الاستقرار قادر على أن يعكس المستجدات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل السعودية.
وفي خضم محاولاتها بناء اقتصاد يتجاوز النفط، تحتاج السعودية إلى اجتذاب استثمارات أجنبية ضخمة في القطاعين المالي والتكنولوجي. ولن يكون هذا ممكناً دون توافر نظام قانوني قوي تدعمه الشفافية والتنافسية وتكافؤ الفرص.
ويعني ذلك وضع نهاية لاستغلال النفوذ، والرشى، و«البقشيش» ـ باختصار ثقافة «الواسطة» التي تنتمي إلى القرون الوسطى.
وتأتي حملة الاعتقالات ضد «المشتبه بهم المعتادون» لتكشف أن القيادة الجديدة في الرياض على استعداد لمواجهة مشكلاتها بقوة وحسم.
بالنسبة للبنان، اتبعت المملكة نهجاً مشابهاً؛ ذلك أن استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري وضعت نهاية لتقليد الصمت على مضض في مواجهة مواقف لا يمكن التساهل حيالها.
في ظل هذا الأسلوب، تعمد قيادات الشرق الأوسط إلى محاولة التعتيم على المشكلات الجوهرية، بما في ذلك المواقف التي يتحملون خلالها مسؤولية دون سلطة حقيقية، مثلما كان الحال مع الحريري.
وبغض النظر عن الأسلوب الذي خرجت به استقالة الحريري، تظل الحقيقة أنها سلطت الضوء بقوة على أن «الاتفاق» المبرم بخصوص لبنان في أكتوبر (تشرين الأول) 2016 فشل.
تبعاً لهذا «الاتفاق»، ضمنت الجمهورية الإسلامية في إيران، التي تعمل من خلال شبكة «حزب الله» في بيروت، الرئاسة لحساب الجنرال ميشال عون، مقابل عودة الحريري إلى منصب رئيس الوزراء.
إلا أنه سرعان ما اتضح أنه بينما يتقلد عون والحريري منصبي الرئيس ورئيس الوزراء على الترتيب، فإن القرارات الحقيقية جرى اتخاذها في طهران. وقد أوضح حسن روحاني هذه النقطة خلال خطاب ألقاه في طهران، عندما قال إن «شيئاً لا يجري» داخل عدد من الدول العربية، وبخاصة لبنان، دون موافقة إيران.
وتكشف استقالة الحريري الدراماتيكية عن أن «هذه الصورة من لبنان» لا تجدي نفعاً. في الواقع، الهيكل الحالي الذي تسيطر من خلاله قوة أجنبية على البلاد، عبر جزء من فئة ما من بين الفئات داخل لبنان معيب في جوهره، وخطير على المديين المتوسط والطويل.
المعروف أن العامل الرئيسي وراء بقاء لبنان ونجاحه جزئياً كدولة يتمثل في النظام القائم على التشارك في السلطة والقائم على احترام التنوع. وفي أي وقت تحاول فئة بعينها أو مجموعة من الفئات الاستئثار بالسلطة، تنزلق البلاد إلى حالة من الفوضى.
جدير بالذكر، أنه خلال خمسينات القرن الماضي، حاول الموارنة السيطرة على السلطة. وقد أسفر ذلك عن اشتعال صراعات طائفية وحدوث تدخل أجنبي. وخلال العقد التالي، حاولت عناصر موالية لفكر القومية العربية ومدعومة من مصر تحت قيادة عبد الناصر القيام بالمثل؛ الأمر الذي أسفر من جديد عن اندلاع صراع ووقوع تدخل أجنبي.
أيضاً، تضرب الحرب الأهلية التي عانى لبنان ويلاتها بين عامي 1975 و1990، بجذورها في التدخل الأجنبي عبر جماعات طائفية محلية تعمل بالوكالة. وخلال جزء من هذه الفترة، حاول عون دفع لبنان إلى جانب صدام حسين في العراق، بينما دفع حافظ الأسد، بدعم من إيران، بثقل سوريا خلف معسكر الخصم.
بين عامي 1984 و1990، تقلد عون مناصب عدة ما بين رئيس للوزراء ووزير للدفاع والخارجية والإعلام، بجانب رئاسته مجلساً عسكرياً ـ وأحياناً كان يجمع بين أكثر من واحد من هذه المناصب في الوقت ذاته.
عندما التقيت عون للمرة الأولى في أكتوبر 1990 في باريس، تمثلت رسالته الأساسية في «أنقذوا لبنان من سوريا وإيران». إلا أن تحليله للأوضاع كان ليلقى تقديراً كبيراً، لو أنه تحدث عن «إنقاذ لبنان من أي قوة أجنبية».
جدير بالذكر، أن ثمة دولاً يتمثل نهجها الرئيسي في الحياد، وتعمل بمثابة مناطق عازلة بين كتلتين متناحرتين. على سبيل المثال، نجحت سويسرا في أن تجعل من نفسها ملاذاً آمناً أمام قوى أوروبية متشاحنة غالباً ما تكون في حالة حرب ضد بعضها بعضاً.
كما جرى تأسيس أفغانستان كدولة عازلة بين الإمبراطوريات القيصرية والفارسية والبريطانية في آسيا. وداخل الهند الصينية خلال فترة ما بعد الاستعمار، اضطلعت مملكة لاوس بهذا الدور حتى دفعتها الولايات المتحدة إلى أتون الحرب الفيتنامية عن غير قصد.
وداخل أميركا اللاتينية، اضطلعت أوروغواي بهذا الدور، بينما كان من نصيب كوستاريكا على مستوى أميركا الوسطى.
وخلال الحرب العالمية الثانية، وفّرت السويد المحايدة قناة اتصال بين الولايات المتحدة وألمانيا النازية، وملاذاً آمناً للفارين من النازيين والسوفيات.
بعد الحرب العالمية الثانية، أعلنت النمسا حيادها، واضطلعت بدور محوري في عمليات التحكيم ونقل ملايين اللاجئين عبر أوروبا التي تمزقها الحروب.
من ناحية أخرى، فإنه عبر تحويلها لبنان إلى خندق خاص بها، أضرت إيران بالمنطقة بأسرها كثيراً، ناهيك عن الضرر الذي لحق ولا يزال يلحق بلبنان.
وربما يتضح أن استقالة الحريري كانت قراراً مفيداً من خلال طرح تساؤل محوري: هل ينبغي للبنان أن يستعيد هويته الحقيقية من جديد أم يصبح أداة في يد الجمهورية الإسلامية، في مسعاها للهيمنة على الشرق الأوسط؟
بطبيعة الحال، يعتمد جزء من الإجابة على اللبنانيين أنفسهم، فهم الذين يتعين عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا يرغبون في أن تكون لديهم حكومتان، إحداهما ظاهرة والأخرى شبه ظاهرة، وجيشان ومحرك للدمى يسيطر على بلادهم ويستهزأ بهم من داخل طهران.
كما ينبغي الانتباه هنا إلى أن لبنان الذي تجري إدارته من طهران لن يتمكن من اجتذاب استثمارات أو تجارة أو سياحة أو وفود ثقافية؛ الأمر الذي يحتاج إليه للعمل كمجتمع ديناميكي حديث.
وكيف يمكن لإيران توفير كل هذا إذا كانت هي ذاتها تفتقده؟ لقد أسهم التدخل الإيراني في تحويل العراق وسوريا واليمن إلى ميادين قتال؛ الأمر الذي يمكن أن يتكرر داخل لبنان.