على مر التاريخ، على الأقل حتى عصر ما بعد الحداثة، لطالما جرى النظر إلى الحرب باعتبارها أسمى المساعي الإنسانية، التي تنضوي تحت لوائها مساعٍ أخرى، مثل السياسة والصناعة حتى الأدب، تعمل في خدمتها.
من جهته، أبدى أرسطو إعجابه بالحرب، لأنه اعتبرها «مفتاح السلام». واعتبر الأفلاطونيون الجدد الحرب المنظم الأكبر وحارس الهياكل الهرمية داخل «الدولة» وبين الدول المختلفة.
إلا أنه بمرور الوقت، فقدت الحرب، مثلما الحال مع بعض المساعي الإنسانية الأخرى، جزءاً مما يسميه الفرنسيون «أصالتها»، تاركة لنا حروباً مصطنعة مدفوعة بحماقة أوهام العظمة، والكراهية العنصرية والدينية، ومصالح المرتزقة.
كان يجري النظر إلى الحرب القديمة باعتبارها استمراراً للسياسة بوسائل أخرى.
إلا أنه في أيامنا هذه، يجري استغلال الحرب في كثير من الأحيان كمناورة افتتاحية في كثير من المواجهات، مع ادعاء أولئك الذين يبدأونها أنهم لا يرغبون في الاستمرار في هذا المسار. ويؤدي هذا إلى نوع من المزاد الهولندي، حيث بدلاً عن تقديم عرض أعلى من السعر المعروض، يعرض الراغب في الشراء رقماً أقل.
وهنا، تظهر حرب روسيا ضد أوكرانيا باعتبارها أحد الأمثلة على ذلك.
كان فلاديمير بوتين قد شن الحرب، معلناً أن هدفه «محو الدولة النازية من على الخريطة». وعندما أصبح واضحاً أن الهدف المعلن مغالٍ في طموحه، اختصره لاحقاً في ضم أجزاء معينة من الأراضي الأوكرانية، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم. الشهر الماضي، قدم عرضاً أقل من ذلك عندما قال إن كل ما يهمه حماية المجتمعات العرقية الروسية بالمناطق التي يسيطر عليها بالفعل. المثير للاهتمام أن مزاد بوتين الهولندي لم يجتذب سوى القليل من الاهتمام، وذلك لأن أنصار أوكرانيا أصبح لديهم الآن هدف أكبر يتمثل في تقليص حجم روسيا.
الحروب لا تنتهي بإعلان أحد أبطالها النصر، وإنما تنتهي عندما يعترف أحد أبطالها بالهزيمة. إلا أنه في عصر ما بعد الحداثة، لا يُسمح للخاسر دائماً بقبول خسارته.
من جهتها، خاضت إسرائيل عدة حروب مع دول عربية، وخرجت منتصرة، قياساً بالمصطلحات الكلاسيكية. إلا أنه بعد ذلك تدخل ما يسمى «المجتمع الدولي» ليعلن التعادل، ويصدر قرارات تضع الفائز والخاسر على قدم المساواة مع الدعوة للتفاوض على اتفاق سلام.
وفي فيتنام، بعد هجوم تيتي، كان من الواضح أن الولايات المتحدة أحرزت نصراً عسكرياً كاملاً. ومع ذلك، أجبرت واشنطن هي الأخرى على الامتناع عن ادعاء النصر، بل الإذعان للرأي العام المحلي والدولي، وتسليم البلاد إلى الجانب الخاسر.
في بعض الأحيان، يسقط الفائز ضحية الغطرسة أو الأحلام التبشيرية. في كل من أفغانستان والعراق، انتصرت الولايات المتحدة في الحرب ضد أعدائها المعلنين، لكنها انجرفت إلى فخ بناء الدولة، الذي أضعف النصر الأولي إلى درجة جعلته يكاد يتلاشى عن الأنظار.
وبمرور الوقت، تكتسب جميع الحروب جانباً عالمياً، ويصبح من الممكن اعتبارها، إلى حد ما، حروباً عالمية. شهدت الحرب الحالية بين إسرائيل و«حماس»، اشتعال مظاهرات ومظاهرات مضادة في أكثر من 60 دولة. كما أدت إلى انقسام أعضاء الأمم المتحدة إلى معسكرين مؤيدين لإسرائيل أو مؤيدين لـ«حماس».
ولعبت الدعاية، التي لطالما كانت عاملاً مهماً في شن الحرب، دوراً لم يكن من الممكن تصوره من قبل. وأصبح ما يسمى بحرب المعلومات الآن قادراً على تحويل المعتدي إلى ضحية، والعكس. وتم محو الفرق بين ما ينبغي أن يفعله الخصوم وما يمكن أن يفعلوه من ناحية، وما لا يمكنهم أو ينبغي لهم فعله من ناحية أخرى.
على سبيل المثال، حقيقة أنه لو لم تشن «حماس» هجوماً ضد إسرائيل، لما كانت هناك حرب، خاصة أن إسرائيل لم تكن مهتمة بغزو غزة التي سحب آرييل شارون القوات منها.
إن ما أرادته إسرائيل من «حماس» الامتناع عن شن هجوم ضدها، الأمر الذي كان بوسع «حماس» توفيره بسهولة. في المقابل، فإن ما أرادته «حماس»، القضاء على إسرائيل كدولة قومية، كان وما زال من المستحيل على إسرائيل التفكير فيه، ناهيك عن توفيره.
ورغم الانفجارات الخطابية لنتنياهو، فإن الصراع الحالي، الذي يجري طرحه باعتباره حرباً، قد ينتهي به الأمر كنسخة خادعة من الحرب. حتى لو كان ذلك ممكناً، فإن العودة إلى الوضع الذي كان قائماً ودمره هجوم «حماس» أمر غير مرغوب فيه. أما مسألة بناء وضع قائم جديد على إعادة الاحتلال الكامل للقطاع، فأمر غير مرغوب فيه بنفس القدر، لأنه بعد اختباره لعقود من الزمن، لم يفلح في توفير الأمن لإسرائيل.
ستحتاج إسرائيل إلى مراجعة عناصر أخرى في الوضع القائم السابق. لقد أثبتت «القبة الحديدية» وسياج غزة فائق التقنية أنهما يتسمان بالهشاشة، مثل تحصينات طروادة، رغم أن بوسيدون من بناها بنفسه.
بعد ساعات من الهجوم، أعلن نتنياهو، متأثراً بحرارة اللحظة، أن «القضاء التام على حماس» هدفه الحربي. وبعد مرور 3 أسابيع، لا بد أن الوقت قد أتيح له كي يدرك أن ما يهم أكثر من القضاء الفعلي على «حماس»، بناء وضع قائم جديد قادر على تحويل غزة من قاعدة للهجوم على إسرائيل إلى منطقة جليدية تحميها.
ويعني ذلك إيجاد شركاء فلسطينيين يتمتعون ولو بقدر ضئيل من المصداقية بين سكان غزة، رغم أنهم لا يشاركون رؤية «حماس» غير الواقعية المتمثلة في «محو إسرائيل من على الخريطة». في الواقع، لا يتوافر سوى القليل من المعلومات حول ما يفكر فيه سكان غزة حقاً. حتى لو كانوا يتقاسمون حلم رؤية إسرائيل تختفي، ربما أدرك كثير من سكان غزة أن «حماس» فشلت في تحقيق أهدافها، بل الأسوأ من ذلك أنها حطمت الحياة المعيشية ونصف المعيشية التي بناها القطاع منذ انتهاء الاحتلال الإسرائيلي عام 2005.
وإذا لم تجد إسرائيل سبيلاً لترجمة انتصارها العسكري، إذا كان انتصارها هو النتيجة، إلى وضع قائم جديد يجعل السلام الدائم ممكناً، فسوف تبدو وكأنها شخص يفوز بكومة من الرقائق في كازينو ليكتشف أنه لا يستطيع صرف نقود مقابلها.