قبل أسابيع قليلة، عندما أوفدت الحكومة في طهران فريقاً من الصحافيين إلى سوريا، كانت الفكرة من وراء هذه الرحلة تقديم تقرير إخباري قوي عن «النصر التاريخي» الذي حققته إيران، وروسيا، ووكيلهما بشار الأسد في حلب. وعلى مدى أكثر من ست سنوات، أي منذ أن ألقت إيران بثقلها وراء بشار الأسد ونظام حكمه المحاصر في دمشق، كانت هذه البعثات الصحافية تتم بصورة روتينية بحتة.
كانت البعثة الصحافية الإيرانية تسعى إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولاً طمأنة الشعب الإيراني حول المغامرة السورية من خلال خلق انطباع بأن الجانب الموالي لإيران هو المنتصر. والهدف الثاني هو إخبار الجانب الخاضع لسيطرة نظام بشار الأسد من الشعب السوري بأن النظام الحاكم ليس معزولاً كما يبدو.
وكان من المقرر للبعثة الصحافية أن تقوم بزيارة عدد من المواقع وتصور ذهابها وإيابها وتنقلاتها لعرضها على شاشات التلفزيون الحكومي في طهران ودمشق. وسوف تكون هناك تقارير إخبارية عن البطولات الرائعة للمتطوعين الإيرانيين ورفاقهم من قوات حزب الله اللبنانية، وفي الآونة الأخيرة أيضاً، المرتزقة من أفغانستان وباكستان.
ومن شأن الفيلم التلفزيوني أن يظهر، من خلال النساء العجائز والأطفال الصغار، مدى الثناء والامتنان الذي يحملونه في قلوبهم للمرشد الإيراني الأعلى لجهوده الحثيثة لحمايتهم من الإرهابيين. وفي المقابل، فإن الصحافيين الإيرانيين الموفدين سوف يبلغون التلفزيون السوري في دمشق عن إعجابهم الكبير بشخصية وشجاعة وصمود الرئيس السوري بشار الأسد في المقاومة. وكان من المقرر لهذه البعثة أن تبث مشاعر الطمأنينة والسرور في قلوب الجميع داخل طهران ودمشق، بل والرضا عن أنفسهم كذلك.
وسوف تكون هناك أيضاً أفلام وثائقية عن الأضرحة و«المقامات الشيعية المقدسة» التي لم يسمع الشعب الإيراني عنها من قبل، ولكن لم يتم تقديمها على أنها «جواهر الإسلام التي أنقذتها طهران وحلفاؤها من الدمار على أيدي التكفيريين». ويكمل قبر الجنرال الراحل حسين حمداني، الذي سقط قتيل المعارك في سوريا أخيراً، عدد هذه الأضرحة والمقامات إلى عشرة آلاف ضريح، وهو رقم مذهل خارج أي معايير ممكنة. ولم يتم تقديم الحرب السورية كحرب أهلية بين الحاكم المكروه والسواد الأعظم من الشعب السوري الأعزل، ولكن بوصفها «الجهاد الأعظم» للمحافظة على وإنقاذ هذه الأضرحة والمقامات.
وعلى الرغم من ذلك، ومع تزايد التدخل العسكري الروسي في الحرب الأهلية السورية منذ عام 2015 فصاعداً، كانت سلعة «حماية وإنقاذ المقامات والأضرحة» عصية على البيع والتسويق من أي وقت مضى.
فلماذا يضطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استثمار الدماء والأموال من أجل إنقاذ الأضرحة - هذه الأضرحة؟<br />وبالتالي، كانت الغاية من «البعثة الصحافية» التي نُظمت في أعقاب خضوع مدينة حلب للقصف الروسي المدمر العنيف، هو غرس «تيمتين» جديدتين في السرد الخاص بالحرب الأهلية السورية، والتيمة الأولى تتعلق بأنه وفقاً للانتصار التاريخي المحقَّق على الأرض، فإن روسيا وإيران كانتا تعملان معاً على إعادة تشكيل سوريا، بل ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها. وكان من المقرر أن تظهر إيران في صورة «المضيف الرئيسي»، في حين تبدو روسيا في صورة «الضيف المعاون»، في مؤسسة صناعة التاريخ الجديد.
أما التيمة الثانية المزمع غرسها في الخطاب العام بشأن الأزمة السورية تتعلق بالتوسع الهائل في الحضور الثقافي الإيراني، إلى جانب وجودها العسكري على الأرض.
يقول آية الله محسن آراكي، وهو الرجل المسؤول عن ملف «التقارب» الإسلامي: «إن السوريين متعطشون للمذهب الشيعي».
وكانت الفكرة تدور حول أنه مع الحرب المفترض أن إيران قد انتصرت فيها بمساعدة حلفائها، حان الوقت لإغراق سوريا ليس فقط بالخوذات العسكرية الإيرانية، ولكن بالعمائم الدينية كذلك لإرشاد (السوريين الضالين نحو «الإسلام الحقيقي»).
وعلى الرغم من ذلك، كشفت أولى البعثات الصحافية الإيرانية لما بعد قصف وتدمير حلب عن صورة مغايرة تماماً. ففي هذه المرة لم يتمكن أحد من تصوير الأفلام الوثائقية المتفائلة، إلى جانب عدد قليل من التقارير الإخبارية والمواقع الإلكترونية مع القليل للغاية من الصور الملتَقَطة. وكشفت بعض تسريبات المشاركين في البعثة الصحافية، بما في ذلك حديث مطول مع عضو بارز من أعضاء البعثة، عن المشهد السياسي العام الذي تغير بشكل جذري ضد إيران وكل الطموحات التي غازلت مخيلتها حول سوريا.
بادئ ذي بدء، لاحظت البعثة الإيرانية زيادة كبيرة في الوجود الروسي. كان هناك مستشارون روس في المطار، تجري مشاورتهم بشأن من يُسمح أو لا يُسمح له بدخول الجيب الخاضع لسيطرة قوات بشار الأسد. ويزعم أحد أعضاء البعثة الصحافية كذلك أنه بسبب اعتراض المستشارين الروس لم تتمكن البعثة الإعلامية الإيرانية من السفر إلى مدينة حلب.
من الواضح أن روسيا تحاول أن تؤمن لنفسها مجالاً آمناً بين الجبال إلى الغرب من العاصمة دمشق والبحر الأبيض المتوسط. ولقد لوحظ انخفاض كبير في النشاط الجوي الروسي، في حين يتزايد الوجود البري الروسي على الأرض.<br />والملاذ الآمن الذي تحاول روسيا إنشاءه مغلق في وجه الإيرانيين، كما أنه مغلق أيضاً، في بعض الحالات، في وجه أعضاء حكومة بشار الأسد أنفسهم.<br />قبل اندلاع الحرب الأهلية تمكنت إيران من إقامة 14 مركزاً ثقافياً في مختلف أنحاء سوريا بهدف تعزيز انتشار نسختها الشيعية من الإسلام، ونشر الفكر الخميني هناك. وعملت هذه المراكز الثقافية على تنظيم المحاضرات والدروس المختلفة، بما في ذلك دروس اللغة الفارسية، وقدمت المنح الدراسية التدريبية في إيران، وعرضت الأفلام المصرح بها من طهران، وعقدت الندوات حول فلسفة الإمامين الخميني وخامنئي.<br />واليوم، تعرضت أغلب هذه المراكز إما للإغلاق بسبب أنها موزَّعَة على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة لبشار الأسد، أو أُغلِقَت بصورة جزئية بسبب عدم القدرة على تأمينها وتأمين روَّادها.
ووفقاً لبعض أعضاء البعثة الصحافية الإيرانية، فإن الوجود الإيراني في سوريا، بما في ذلك الوجود العسكري الكبير، أصبح يتخذ وضعية الحماية الذاتية. والهدف الرئيسي هو تقليل عدد الضحايا بدلاً من محاولة الاستيلاء على المنطقة من كثير من جماعات المعارضة. حتى مع اقتلاعها من جذورها فسوف تعود إلى الحياة من جديد كمثل ما تصنع الفطريات تماماً.
ومن المثير للاهتمام، ربما، أن أعضاء البعثة الصحافية الذين ردوا على الاستفسارات قالوا إن هناك تشرذماً واضحاً في معسكر بشار الأسد، وأن كثيراً من الجماعات المسلحة باتت تسيطر على أجزاء مختلفة من الأراضي، وحتى في داخل جزء من العاصمة دمشق نفسها الذي لا يزال خاضعاً لسيطرة قوات النظام اسمياً. ويمكن اعتبار بعض من هذه الجماعات مكونة من الرجال اليائسين المتهورين المستعدين للقتال حتى آخر رجل وآخر نفس. وأظهرت جماعات أخرى درجة من المرونة بشأن احتمال إبرام بعض الصفقات مع جماعات المعارضة السورية، الأمر الذي كان مفاجأة للبعثة الصحافية الإيرانية.
يزعم أحد أعضاء البعثة الصحافية الإيرانية أنه أصابه الذهول من عمق الإحساس بالوطنية السورية، الذي لاحظوه لدى بعض المقاتلين الذين انضموا للقتال تحت لواء بشار الأسد، استجابة للمشاعر الطائفية.
وعلى العكس من البعثات الإعلامية السابقة، كانت البعثة الصحافية الأخيرة غير قادرة على تقديم أي شيء أكثر من الأصداء الواهية لوسائل الإعلام الإيرانية التي تسيطر عليها الحكومة بإحكام. ولكن لهجة المواد المعروضة تكشف بكل وضوح عن الصورة المختلفة تماماً لسوريا كدولة انقسمت بين معسكرين تغذيهما المشاعر الطائفية المسمومة. ولقد جادل البعض منا طويلاً بأن صلة بشار الأسد بالواقع السوري صارت مبتورة، فهو كالجواد الميت الذي يزداد صهيله ولا مكان يذهب إليه. والأمر اللافت للنظر هناك أنه مع افتقار روسيا وإيران للسلطة الحقيقية التي افترض الكثيرون أنهما يتمتعان بها في الواقع السوري، فإنهما إما يطيلان أو يقصران من أمد المأساة السورية الراهنة.
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط