بقلم - أمير طاهري
نظراً لصفة «إسلاميّ» التي صارت لازمة الالتحاق بكافة أجهزة الدولة وتُنسب إليها كافة الإجراءات المتخذة حكومياً؛ فغالباً ما بات يوصف النظام الخميني في إيران بأنه الحكم الثيوقراطي (الديني) ذو المذهبية الشيعية التي تمثل العمود الفقري لآيديولوجية الدولة.
ومع ذلك، ماذا لو أن الصفة كانت منبتة الصلة عن الموصوف، ناهيكم عن أن تكون الصفة مُضللة بالأساس؟ وماذا لو أن المختصين فشلوا في استشعار موجة التوتر الخافتة بين الجمهورية الإسلامية باعتبارها بنياناً سياسياً وبين الهياكل التقليدية للمذهبية الشيعية؟
ورغم أن الشيعية بصفتها مذهباً لم تحظَ قط بشكل تنظيمي رسمي، بالمعنى نفسه الذي تعكسه الكنائس المسيحية على سبيل المثال، فلقد نجحت – عبر القرنين الماضيين على أقل تقدير – في تطوير بنيان غير رسمي من الإدراك والتراتبية التمييزية، ووقفت في بعض الأحيان موقف المعارضة الصريحة من الآلية الحكومية العابرة عليها. ويقع في صميم هذا البنيان ما يسمى بالمعهد العلمي (أو الحوزة العلمية)، وهي عبارة عن شبكة من المدارس الدينية المكرسة بالكامل لتعليم الأجيال تلو الأجيال من رجال المذهب الشيعي المعتمد لديهم.
وفي فبراير (شباط) من عام 1979، ومع الوثبة الكبيرة التي وثبها آية الله الخميني من العدم إلى الفراغ الذي خلّفه رحيل الشاه المفاجئ عن المشهد السياسي الإيراني إثر مغادرته البلاد، كانت الفرضية السائدة توحي بأن «الحوزة العلمية» على اعتبار أنها الذراع الرئيسية للتراتبية المذهبية، سوف تلتقط زمام السيطرة على آليات الحكم والقيادة في الدولة الجديدة من خلال حالة من حالات الاندماج الفعلية المتوقعة. ومع ذلك، لم يجد ذلك الاندماج في واقع الأحداث مكاناً يُذكر.
وبادئ ذي بدء، لم يؤيد النظام الخميني الحاكم الجديد سوى حفنة قليلة من كبار آيات الله، ولم يكن تأييدهم بالحماس المطلق الذي توقعه الكثيرون. وتأكيداً للقول، فإن عدد الرجال الذين اعتمروا العمائم الشيعية الشهيرة وتتدلى من بين أصابعهم المسابح الطويلة قد تزايد انتشارهم بصورة فجة، حيث صار «الشكل» الديني الظاهر من ضرورات تأمين «لقمة العيش» وفرص العمل في الهيئات الحكومية المختلفة وقتذاك. ومن ثم تحول الآلاف من الانتهازيين من الملابس المدنية الاعتيادية إلى العباءات الدينية الداكنة وتلمسوا لأنفسهم ألقاباً رنانة مثل «حجة الإسلام» أو «آية الله»!
وفي عام 1979، قدّر مكتب الأوقاف، الذي كان متفرعاً عن حكومة الشاه آنذاك، عدد رجال الدين وطلاب العلوم الدينية بنحو 200 ألف فقط. وفي عام 1989، ارتفع العدد إلى ما يقرب من نصف مليون. ونظراً لأنه كان من شبه المستحيل عملياً تدريب هذا العدد الهائل من طلاب العلم الجدد (الملالي)، فلا بد أن يفترض المرء أن الزيادة العجيبة في عدد رجال الدين إلى أكثر من الضعف يرجع بالأساس إلى التدفق الهائل في أعداد رجال الدين «المزعومين».
وكان من وظيفة رجال الدين «المزعومين» الجدد منح التأييد العلمي الافتراضي للمزاعم الدينية الخاصة بالنظام الحاكم الجديد. وفي الأثناء ذاتها، ورغم كل شيء، مهَد وجودهم المجال لرجال الدين التقليديين من المحافظة على جزء من هويتهم المستقلة على أقل تقدير.
وخضعت المزاعم الدينية للنظام الخميني الحاكم الجديد للطعن من حقيقة واقعة مفادها أن المعاهد الدينية «الحوزة العلمية» في مدينة النجف العراقية كانت خارج نطاق سيطرة النظام الإيراني، وبالتالي فهي قادرة على توفير الملاذ الآمن لرجال الدين الإيرانيين الذين يعارضون الأفكار والمعتقدات السياسية للخميني.
ومع ذلك، وطالما يستطيع النظام الحاكم الجديد في طهران «ترهيب» أو «رشوة» الحوزة العلمية في مدينة قُـم، فمن شأنها توفير التأييد الجزئي لبعض مزاعم النظام وإضفاء الشرعية الدينية عليها وفق المطلوب. وتحقيقاً لهذه الغاية، أنشأ النظام الحاكم مجلس العلماء الذي يتألف من سبعة إلى تسعة من «آيات الله» الذين يختارهم المرشد الأعلى بنفسه من أجل تأييد النظام الحاكم وتعزيزه إثر العطايا الحكومية السخية.
ومع ذلك، ورغم أن بعض «المختارين» أصبحوا أثرياء للغاية، فإنهم فشلوا في تأمين التأييد الشعبي الحقيقي لأنفسهم. وبالتالي، وبدلاً من اعتماد النظام الحاكم على شعبيتهم، اعتمدوا هم على أموال النظام من أجل استمرار وجودهم ووظائفهم وعطاياهم.
وعلى مر السنين، تمكنت الحوزات العلمية الإيرانية المنتشرة والعاملة في أكثر من 30 مدينة في كافة أرجاء البلاد، وعلى رأسها مدينة قُـم، من إقامة نوع من المناطق العازلة فيما بينها وبين آليات الحكم في الجمهورية الإسلامية. ورفض المذهبيون التقليديون في إيران تأييد المواقف السياسية، وألزموا أنفسهم النأي التام عن أجهزة الدولة المختلفة مثل المجلس الإسلامي، ومجلس الخبراء، ومجلس الأوصياء. وتطرقت الحوزة العلمية البالغة الأهمية في النجف لما هو أبعد من ذلك في إقصاء الذات عن أجهزة الدولة الخمينية. وتوقفت الشخصيات الرئيسية في حوزة النجف، ومن أبرزها آية الله العظمى علي محمد السيستاني، عن زيارة إيران.
والآن، ومع التحديات التي تواجهها الجمهورية الإسلامية، وشرعيتها القائمة، من واقع المظاهرات الشعبية العارمة، فإنها تحاول مجدداً فرض السيطرة على التراتبية التقليدية لرجال الدين في الحوزات العلمية، ولا سيما في مدينة قُـم.
وخلال الصيف الماضي، عندما تحولت مدينة قُـم إلى مسرح مفتوح للثورة ضد النظام، اضطر المرشد الأعلى علي خامنئي إلى إلغاء زيارته إلى المدينة وأصدر أوامره إلى لواء الإمام الصادق باستعادة الأمن والنظام في المدينة. وزعمت الدعاية الحكومية الرسمية، من خلال التأييد الضمني لحالة الاستياء السياسية الراهنة، أن رجال الدين التقليديين قد صاروا «علمانيين»!
وكان هذا الادعاء هو الموضوع الرئيسي للمظاهرات التي اندلعت في أغسطس (آب) الماضي من تنظيم الأمن الإسلامي تحت رعاية وإشراف لواء الإمام الصادق بهدف ترهيب رجال المذهب الشيعي التقليديين.
واحتل لواء الإمام الصادق، رفقة الآلاف من طلاب العلم الشباب، مبنى المدرسة الفيضية الشهيرة، حيث شنّ أنصار الحكومة ودعاتها هجوماً حاداً على آيات الله التقليديين وطلابهم.
وقال حسن رحيمبور أزغدي، أحد أبرز المنظرين الإعلاميين للحرس الثوري الإيراني، «إن علمنة الحوزة العلمية تهديد واضح وصارخ على النظام القائم في البلاد. فالحوزة العلمية، في واقع أمرها، تتواطأ مع العلمانية، وربما عن غير قصد منها».
واشتمل استعراض القوة في مدينة قُـم بعضاً من الدندنة حول العطايا المالية السخية التي ينثرها النظام الحاكم على رجال الدين وطلاب العلم مع التهديد الضمني بأنه إن اتخذت الحوزة العلمية جانب المنشقين عن النظام، فربما ينتهي أمرها تماماً في البلاد.
وجاء الرد الفوري من رجال الدين التقليديين في صورة موعظة كبيرة ألقاها آية الله العظمى محمد جواد علوي بروجردي، الذي يعتبره الكثيرون في إيران أحد كبار رجال الدين في مدينة قُـم.
وقال السيد بروجردي في موعظته «يزعم بعض السادة أن الحوزة العلمية قد تحولت إلى العلمانية، فإن زعموا أن الحوزة العلمية لا تعبأ بحياة الناس، ومشكلاتهم، ومخاوفهم، فقد كذبوا. فإن المذهب الشيعي في جوهره الأصيل مذهب سياسي ولا يمكن لنا ألا نعبأ أبداً بحياة الناس ومتاعبهم».
وفي هجوم خافت على رجال الدين الموالين تماماً للنظام، قال آية الله بروجردي «إن العلمانيين هم أولئك الذين يخضعون بالطاعة والولاء الأعمى لكل من تولى مقاليد الحكم في البلاد، وأولئك الذين يصوغون الآيديولوجيات المؤيدة لحكم المستبدين، فلا يتوقعون من الحوزة العلمية أبداً أن تذعن لأهوائهم».
ثم أضاف قائلاً «أجل، إننا نناقش المسائل ذات الصلة بالدولة والحد من سلطاتها. وينبغي لمجال الدين، كما هو الحال في مجالات العلوم والفنون، أن يكون مفتوحاً للحوار الحرّ البناء؛ مما يعني أن يكون الناس أحراراً في المناقشة والمناظرة والتنظير. فالعلوم لا تتقدم قيد أنملة في غياب الحرية وأن يتمكن الجميع من الاستفادة منها على حد سواء».
كما دعا آية الله بروجردي الحكومة الإيرانية إلى وقف عطاياها السخية التي تتفضل بها على رجال الدين وطلاب العلم حين قال «لقد اعتمدنا دائماً على تبرعات وهبات الناس من حولنا».
وفي غضون 48 ساعة من موعظة آية الله العظمى بروجردي، أقال المرشد الأعلى علي خامنئي الجنرال حسن طبيبي - فار من قيادة لواء الإمام الصادق، وأمر بإجراء تحقيق في المظاهرة المثيرة للريبة في أغسطس الماضي في مدينة قُـم.
أيمكن أن «تتعلْمَن» مدينة قُـم؟ يصعب للغاية تصديق ذلك، على الرغم من حالة الجهل والصلف والغطرسة التي تعم القيادة السياسية في طهران التي قد تُفضي إلى ردود فعل غير متوقعة من ضحايا الفساد الراسخ والسخرية اللاذعة.