بقلم - أمير طاهري
مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي من مراحلها النهائية في الولايات المتحدة، يعرض المشهد السياسي الأميركي مجموعة من السمات المثيرة للاهتمام لدى المراقبين الخارجيين. وبناء على النتائج المنتظرة يوم 6 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإن بعضاً من هذه السمات قد تتحول إلى ثوابت في الممارسات الانتخابية الأميركية لبعض الوقت في مستقبل البلاد.
ومن السمات الحديثة على المشهد الانتخابي الأميركي أنها المرة الأولى في الذاكرة الحية للبلاد التي يجري فيها خوض الانتخابات الأميركية الكبرى، في غياب قضايا سياسية ملموسة يجري طرحها ولو بصورة «مزركشة» في المناظرات السياسية الجادة. إذ يتطلع إليك المرشحون من جانبي الطيف السياسي بنظرة تحمل مزيجاً من الانزعاج وعدم الإدراك إن حدث وطرحت سؤالا حول أمر مستتر مثل السياسات الاقتصادية للمرشحين. وعلى الجانب الديمقراطي من الطيف السياسي، فكل ما تسمعه هو أن الواجهة المتلألئة من الاقتصاد الأميركي الحالي لا تعدو كونها وهما مزيفا بلا حقيقة راسخة. وعلى الجانب الجمهوري من الطيف نفسه فلن تحصل سوى على بعض الادعاءات، بأن الأمور تسير على خير ما يرام، وأن الديمقراطيين عاقدو العزم على تحطيم الأمور تحطيماً. الأمر الذي يجلبنا إلى السمة الجديدة التالية في هذه الانتخابات، ألا وهي: غياب المعارضة القادرة على طرح النقد البناء المتماسك والبديل الاستراتيجي الملموس للاستراتيجية الراهنة للإدارة الأميركية.
وفي واقع الأمر، فإن السمة الثالثة الجديدة تتعلق بأن انتخابات الشهر المقبل تدور حول تقرير من يسيطر فعليا على الحزب الديمقراطي بأكثر من مجرد طرح الاستراتيجية المعنية بوقف قوة الاندفاع الجامحة للرئيس دونالد ترمب، التي يتعذر الوقوف في سبيلها. وبات من الواضح وجود انقسام ثلاثي داخل الحزب الديمقراطي.
إحدى فصائل ذلك الانقسام تتألف مما يمكن للمرء وصفه بأنه «الترمبيون اليساريون» الذين يحاولون محاكاة أسلوب الصدمة والرعب الذي يعتمده الرئيس حاليا، الأمر الذي يساهم في المزيد من راديكالية الخطاب السياسي الأميركي.
وتعويذة هذا الفصيل الجالبة للحظ هي السيناتور بيرني ساندرز، الذي يقدم مزيجا من الشعبوية اليسارية والاشتراكية الأوروبية العتيقة. فإن اعتبرنا السياسة رقصة من الرقصات، فإن ساندرز يعتبر شريكا مثاليا لدونالد ترمب في تعبير راقص من اثنين. ويصر مؤيدو بيرني ساندرز على أنه كان ينبغي أن يكون حامل لواء الديمقراطية في مواجهة دونالد ترمب في انتخابات 2016 الرئاسية. ويرفض هذا الادعاء النخبة القديمة للحزب الديمقراطي التي لا تزال يحركها الحنين إلى الأيام الخوالي القديمة من رئاسة بل كلينتون للبلاد.
أما الفصيل الثالث داخل الحزب الديمقراطي الأميركي فيهيمن عليه ما تبقى من مؤيدي باراك أوباما. عندما غادر الرئيس الأسبق البيت الأبيض بانتهاء ولايته، كانت الحكمة التقليدية تشير إلى أنه سوف يتبع الخطى التقليدية للرؤساء السابقين الآخرين، ويظل على هامش الحياة السياسية محتفظا - في سعادة وسرور - بلقب «الأب»، أو «الجد» للأمة بأسرها، بحسب عمره وقتذاك.
ولقد أثبت هذا الافتراض خطأه الكبير حتى الآن!
فإننا نعلم جيدا أن باراك أوباما لا ينوي على الإطلاق الاضطلاع بدور رجل الدولة الكبير، ولقد أمضى كثيرا من الوقت والجهد محاولا الاحتفاظ بالنفوذ داخل الحزب باعتباره زعيم الطيف السياسي المشترك الذي عاونه أيما معاونة في الفوز بالرئاسة أول الأمر.
ويتألف هذا الطيف السياسي من مجموعة من الأقليات في المجتمع الأميركي: الأميركيون الأفارقة بنسبة 12 في المائة، والأميركيون الإسبان بنسبة 14 في المائة، واليهود والمسلمون بنسبة 2 في المائة، والمثليون بنسبة مماثلة، والأميركيون الأصليون بنسبة لا تتجاوز 1 في المائة.
ويبدو أن السيد أوباما قد اختار الرجل الذي يمكنه تمثيل ذلك الطيف السياسي في المعركة السكانية القادمة. وهو جوليان كاسترو، مكسيكي الأصل، الذي خدم في إدارة أوباما تحت منصب وزير الإسكان. وبإمكانه، كما يأمل له أوباما، أن يصبح أول رئيس للولايات المتحدة من أصول إسبانية. ولقد استغل السيد كاسترو انتخابات التجديد النصفي الجارية كفرصة سانحة لأن يكشف عن نفسه للشعب الأميركي. فلقد ظهر في أكثر من 80 مظاهرة انتخابية مؤيدا للمرشحين الديمقراطيين، وهو من الشخصيات متكررة الظهور على مختلف الشبكات التلفزيونية الأميركية التي تتعرض بالكراهية والانتقاد للسيد دونالد ترمب بقدر ما يكرهها ترمب في المقابل.
وحتى الآن، كانت النتيجة النهائية هي تعميق لحالة الانقسام العرقي والسياسي بين الأغلبية المسيحية البيضاء والطيف السياسي الديمقراطي المختلط.
تعد حالة الضعف الراهنة التي يعاني منها الحزب الديمقراطي من الأنباء غير المتوازنة للديمقراطية الأميركية بصفة عامة، التي يستلزم نجاح عملها وجود معارضة قوية وموثوق فيها. وخلال أغلب حقبة التسعينات من القرن الماضي، كان الضعف البنيوي في الحزب الجمهوري، المعارض في تلك الأثناء، هو ما عزز مزيج الصلف والغطرسة والخمول من جانب النخبة الديمقراطية على رأس السلطة في البلاد، الأمر الذي أفضى إلى ضياع المزيد من الفرص الجيدة على المستويين الوطني والدولي.
ومن السمات الجديدة أيضا نجد اشتداد العنف اللفظي الذي يبدو وأنه يحظى بمزيد من الزخم ليتحول إلى أحد المعايير الجديدة. ولم يُعرف قط عن السياسات الأميركية اتسامها بالتأدب والكياسة والتحضر. فإن معارضي الرئيس لينكولن قالوا وكتبوا عنه أمورا يندى لها الجبين ونخجل كثيرا من مجرد التفكير في تكرار ذكرها. وكانت مفردات الرئيس الراحل ليندون جونسون أقرب ما تكون لنوبة من نوبات السكر والعربدة لعامي من عوام الناس، أكثر مما هي صادرة عن سياسي شهير وبارز يتحدث في أجواء ديمقراطية ناضجة.
ورغم ذلك، يعتقد كثير من الشعب الأميركي أن المستوى الراهن من الخطاب السياسي في بلادهم هو في أدنى مستوياته على الإطلاق، من حيث تبادل الرصاصات الشفهية الموجعة التي حلت محل النقاش السياسي المتحضر.
وفي الصورة العامة التي لا تبدو ملائمة على الإطلاق مع الديمقراطية الأميركية العريقة، قد يجد المرء مزيتين يمكن اعتبارهما إيجابيتين.
والمزية الأولى هي حالة غير مسبوقة من الاحتشاد السياسي على جميع الجوانب. مع توقعات بأن ملايين الناس من الذين لم يصوتوا قط من قبل قد ينطلقون للتصويت هذه المرة. ولكن الأمر المؤكد في هذا السياق هو أن الحملة الحالية قد اجتذبت كثيرا من المؤيدين على كلا الجانبين. فلقد خرج مئات الآلاف من الموظفين في إجازات مؤقتة من أعمالهم بغية تأييد مرشحيهم المفضلين ومساعدتهم على الفوز أو العمل على تعطيل فوز المرشحين الذين يعارضونهم في المقابل.
أما الجانب السلبي للأمر فيتمثل في الارتفاع السريع لنفوذ وسائل الإعلام الاجتماعية، التي باتت تشكل خطرا على الأمدين المتوسط والطويل. وحقيقة أن وسائل الإعلام السائدة تواجه أزمة فعلية بسبب مزيج من الأسباب الاقتصادية والثقافية والهيكلية قد أقنعت كثيرا من الناس بالانتقال إلى وسائل الإعلام الاجتماعية، باعتبارها نافذة بديلة إلى العالم الحقيقي.
وتشجع وسائل الإعلام الاجتماعية على نزع الطابع العرضي عن السلطة السياسية. وهي تعمل على خلق «غرف الصدى» التي تحبس الملايين من المستخدمين ضمن النطاق الضيق للغاية من «تحيزاتهم» المفضلة. والأسوأ من ذلك أنها تعزز كثيرا من الوهم الزائف بأن «الكل» قد صار خبيرا ومرجعا بشأن كل قضية ومسألة. ولكن إن صار الكل خبيرا في كل المسائل، فالحقيقة أنه ليس هناك خبراء في أي شيء على الإطلاق.